يجلس مسعود هانسر بجاكيته البرتقالي الفاقع ووجهه المحايد الشاحب بين أنقاض المبنى، يده ممدودة لجسد يبدو منه نصف الرأس واليد اليسرى، فيما بقيته مستلقياً على مَرْتَبة محشورة بين أتربة وصخور وحديد، وكأن المشهد يتنبأ بكفن. على المرتبة وبين الأتربة والصخور يتمدد جسد ابنته إرماك، يراها، يلمسها، لكنه لا يستطيع احتضانها، لا يستطيع إنقاذها، لا يستطيع إخراجها من محشرها، لا يستطيع افتداءها بحياته، وهو، أي هذا الافتداء، قد يكون الدواء الوحيد للوجع الذي لا بد أنه يسري في جنباته. يجلس مسعود بعجز وحشي لأب غير قادر على إنقاذ حشاشة جوفه، لب قلبه، كبده التي تبقيه حياً، ينظر نظرة خالية للأمام، يحني رأسه انحناءة خفيفة جهة اليمين، تبدو على شفتيه شبه ابتسامة ضارية الوجع. صعدت روح إرماك من بين الصخور وبقي أبوها مسعود على الأرض عالقاً بيدها، لا يستطيع استعادتها، لا يستطيع الصعود معها. وجه مسعود يوحي باستسلام محايد، وكأن لا شيء عاد له معنى على سطح الأرض، وهل بعد أن ضربت هذه الكارثة الطبيعية أشد المناطق فقراً وازدحاماً وآلاماً معنى لأي شيء أو مغزى؟
لربما هو موت المشاعر الإنسانية الطبيعية التي احتاجت لإنعاشها زلزالاً مدمراً يجبرنا أن نلتفت لمأساة النزوح السوري كأعظم مآسي القرن الواحد والعشرين. لربما أتى هذا الزلزال ليرج ضمائرنا وقلوبنا رجاً ضارياً بمشاهد حية ملونة لأطفال ينتفضون تحت التراب، منهم من يسلم الروح ومنهم من بالكاد يستعيدها سحباً للأنفاس الصغيرة من بين الأتربة والحديد والحجر. لربما هو السكوت الإنساني الطويل على الموت المستمر للأطفال، في فلسطين، في سوريا، في العراق، في جنوب لبنان، في الشرق الأقصى، في الجنوب الأفريقي، في كل بقاع العالم المختلفة، من أجل النفط والمال والسيطرة، وبدوافع من الخبث والكراهية والطمع، أن أرتنا السماء مشاهد حية من أفعالنا، أن انشقت الأرض تذكرنا بخبث وفحش جنسنا. لا ندري لماذا ضرب الزلزال اللعين أضعف وأحوج المنكوبين من بني جنسنا، لكننا كلنا نعرف أن هناك طفلاً سورياً يجلس مرتجفاً الآن من برد أحد المخيمات في ريف إدلب بعد أن فقد فوق الفقد فقداً، طفل لم يستطع أن يحبس دموعه حين سأله المراسل «كيف عم بتدفي حالك؟» فرد مخفض العينين «الله بيدبر»، لتخرج عبراته ساخنة، الوحيدة الساخنة في هذا الصقيع، صقيع الجو والظروف وقلوب البشر. بكى المراسل وبكت المذيعة، التي نوهت بصوتها المرتجف: «نحن آسفون ونعتذر بشدة لتلك الأوضاع التي يعيشونها، نحن نجلس هنا في الأستوديو والجاليري، نرى طفلاً صغيراً يرتجف من البرد وكل ما يمكننا فعله هو الاستمرار في التغطية».
في كاريكاتير له، يرسم خالد البيه صورة بالأبيض والأسود مُعَنْونة سوريا. تظهر أياد ممدودة للسماء وقد تساقطت فوقها القنابل، من باطن الماء وقد غرق أصحابها، منبثقة من الأرض وقد دُفِنت الأجساد المتصلة بها بين الركام، ليقول الكاريكاتير: «السماء والماء وحتى الأرض… خذلتنا». والحقيقة أن البشر هم الخاذلون وهم المخذولون، هم المعذّبون وهم المعَذَّبون، الحقيقة أننا كلنا ظالمون مساهمون. نعم، قد لا تكون لنا يد مباشرة في الزلزال، إلا إذا كان هذا الحدث المدمر قد نتج عن أفعال بشرية منتهِكة للطبيعة هي التي حركتها بغضبها، إلا أن لنا يداً طويلة ومتطاولة ومباشرة ومجرمة في ترك أعداد ضخمة من بني جنسنا تحت ظروف مزرية، مكشوفين مُنْهَكين ومُنْتَهَكين، غير قادرين على مقاومة أي صورة من صور القسوة الحياتية اليومية البسيطة، دع عنك أشدها ضراوة ووحشية: زلزال يقلب باطن الأرض ويدفع ظاهرها أسفلها.
الآن تتصاعد النداءات أن أرسلوا الإغاثات، ساعدوا المنكوبين، أنقذوا أهل سوريا ولبنان والجنوب التركي الذي في أغلبه يتشكل من النازحين السوريين. ولماذا تركناهم أصلاً في نكبتهم الأولية؟ ألم يتعرضوا لما هو مماثل وأشد من قبل؟ ألم تنهمر عليهم قنابل أنظمتهم؟ ألم يحشروا في مخيمات لأنظمة أخرى متعالية وكارهة لاستقبالهم؟ ألم يتوهوا في الأرجاء غير عارفين أين المستقر بعد أن خذلتهم السماء وخذلهم الماء كما يقول خالد البيه، لتجهز عليهم الأرض الآن بزلزال يبتلعهم؟ الآن نتذكر ونحزن ونتأوه ونرسل الأموال والأغطية فيما نحن كلنا مساهمون في نكبتهم الأصلية، نكبة النظام الذي فجر بهم، ونكبة النزوح التي شردتهم وجوعتهم وأمرضتهم، ونكبة الفقر، ونكبة الاغتراب، ونكبة الحزن ونكبة الفقد؟ الآن نبكي على الأطلال؟ يا لوقاحة بني جنسنا!
ولأن كل ما بقي هو أضعف من أضعف الإيمان، لنتبرع جميعاً بأي مقدار. الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية، الهلال الأحمر، منظمة اللاجئين، اليونيسيف وغيرهم، كلهم يفتحون أبواب التبرع. أرسلوا ما تيسر حفظكم الله، لربما نام صغير إدلب ليلته دافئاً.