في كتابه الرائع الإسلام والعلمانية يتحدث أوليفييه روا عن الإشكالية بين العلمانية والإسلام، وحول ما إذا كانت تلك إشكالية عامة بين العلمانية والأديان جميعها. يقول روا: إنه «من العبث النظر إلى العلمانية كأنها علاقة بسيطة بين الدولة والدين، فالعلمانية تتخذ الهيئة التي يتحدد بها المجتمع سياسيا» (25)، كما يؤكد روا «أن الدين، كما العلمانية، يستدعيان اليوم باسم الهُوية ويوضعان وجها لوجه كما لو أن أحدهما مرآة للآخر» (26) وهي النقطة التي بقي الكاتب يكررها مؤكدا أن العلمانية في الواقع ما هي الا نتاج قراءة دينية، وما هي الا محاولة إيجاد هُوية تماما كما الدين، من حيث أن كلاهما «في حالة نسيان لجذورهما التاريخية» (26) وعليه فهما متقاربان وينتجان «مناهج تفكير تتقارب أكثر مما تتعارض» (26).
يميز الكتاب كذلك بين مفهومين مختلفين ؛هما الدنيوة «يتحرر فيها المجتمع من مقدس لا يرفضه بالضرورة» والعلمانية «تقصي فيها الدولة الديني إلى ما وراء الحدود التي رسمتها هي بحكم القانون» (29). وعليه، تتشكل أنماط مختلفة من الدول طبقا للمفهوم المتبنى، فمثلا ممكن أن يكون البلد دنيويا وليس علمانيا من حيث أن لديه دين رسمي كبريطانيا والدنمارك، ويمكن أن يكون علمانيا معترفا بالديـــــني في الدوائر السياسية كالولايات المتحدة (30).
إذا تتعـدد الأنماط التي يمكن أن تقود إلى أشكال أكثر ديمقراطية في الحكم، إلا أن «العقبة الرئيسية أمام الديمقراطية في الشرق الأوسط تأتي من الأنظمة العلمانية» حيث أن أنموذجها السياسي «مأخوذ من الفاشية الأوروبية واشتراكيات العالم الثالث، بعيدا جدا عن القرآن وسنة النبي» (31) اللذين طبقا لرأي الكاتب قابلتين جدا لتقبل أنموذج العلمانية والدنيوة.
يستعرض الكتاب مشكلة الإسلام والمسلمين تحديدا في الدولة الفرنسية التي يجد الكاتب أنها نتجت عن رؤية قسرية من المجتمع الفرنسي تجاه الدين الإسلامي من حيث محاولة قولبته في قالب فرنسي ليبرالي لا يتناسب والرؤية الإسلامية للمسلمين كافة (مؤكدا وجود عدد كبير من المسلمين المتكيفين مع الثقافة الفرنسية) وكذلك من حيث محاولة عزله عن المنظومة الفكرية الفرنسية لا ضمه إليها. يؤكد الكاتب في أكثر من موقع أن المشكلة الفرنسية الرئيسية تكمن في حقيقة أن الحكومة الفرنسية تعزل إسلاما تراه أصوليا أو متطرفا في حين أن الحل الوحيد يكمن في قبوله جزءا من المكون الفرنسي ومن ثم التعامل معه، فالإبعاد والتغريب سينتج عنهما العنف القائم حاليا. يؤكد روا أنه للخروج من الخطاب الديني، لا يجب تنصيب العلماينة دينا، رافضا مواجهة «خطاب أيديولوجي بخطاب أيديولوجي آخر» (36) فالعلمانية «هي أولا مجموعة من القوانين قبل أن تكون منهجا فكريا» (36-37).
يقول روا كذلك في شرحه للعلماينة الفرنسية تحديدا: إنها «ما يمكن استنباطه مبدأ مشتركا للقوانين كلها التي تنظم مجال الديني في المجال العام الفرنسي منذ تأكيد مبدأ الفصل بين الكنيسة والدولة. والعلمانية في نظر القانون ليست حالة عقلية ولا فلسفية، كما أنها ليست مبدأ بل مجموعة قوانين تستمد صلاحيتها من إرادة المشرع: وعلى ذلك فإن حقيقتها سياسية» (37-38). وعليه، يؤكد الكاتب أن «البنية المسببة للنزاع كانت ملازمة للهُوية الفرنسية وأن العامل الديني هو المتغير الوحيد» (41)، وعليه لا يصبح الصراع الحالي مع الإسلام مختلفا كثيرا من وجهة نظر الكاتب عن الصراع السابق مع المسيحية. من أهم النقاط التي ذكرها الكاتب في رأيي هو خطأ قيام العلمانية «على وهم التوافق» (43) كما ويؤكد الكاتب أن العلمانية لا تهدف «إلى استبعاد المؤمنين لكنها تسعى إلى تحديد مجال للحياد» (43). إذا ليس المطلوب، كما يشير الكاتب، إيجاد مســــاحة توافقية بين الأديان، وليس المطلوب كذلك هو إيجاد مساحة توافقية بين الثقافات، وليس المطلوب عزل المتدينين، إنما المطلوب إيجاد مساحة حياد سياسية قانونية.
يتساءل الكاتب عن سبب مساءلة المجتمع الفرنسي للاهوت الإسلامي دونا عن المسيحي من حيث قبوله بالعلمانية، فاللاهوت المسيحي لم يكن قابلا بها كذلك، الا أن تطويعا إراديا تم القيام به للاهوت وللعلمانية كذلك لإيجاد نقطة الحياد، وهو الممكن جدا، من وجهة نظر الكاتب، تجاه اللاهوت الإسلامي. وعموما يرى الكاتب أن «إستخدام اللاهوت لغايات سياسية خبيثة لا يطال الإسلام وحده» (50) فأديان أخرى عانت كما يعاني الإسلام اليوم.
يطرح الكاتب وجهة نظر جديدة ومهمة، لائما السياسة الفرنسية وما تبثه من مشاعر خوف ومظاهر عزل في الصفوف الفرنسية بين المسلمين وغير المسلمين، كما يرى أن هناك معاملة تمييزية ضد المسلمين ومحاولة لفرض رقابة عليهم غير مسبوقة تجاه الأديان الأخرى ما أثار الزوابع الأخيرة كلها في الضواحي الفرنسية وبين الأجيال الأصغر عمرا تحديدأ. في الكتاب الكثير مما يستحق الحديث عنه حول العلمانية والدنيوة عموما ومن حيث خصوصيتهما في المجتمع الفرنسي تحديدا، لربما تساعدنا رؤية الكتاب للمجتمع الفرنسي على استيضاح ما يحدث لدينا في مجتمعاتنا المتخبطة اليوم بين عصرية ودينية نحن في أمس الحاجة لخلق مساحة حياد بينهما.