أعيش هذه الأيام صراع مرير مع النفس، صراع أشبه بذاك الذي عشته ابان الغزو العراقي للكويت في 1990 ثم ابان الغزو الأمريكي للعراق في 2003 وما بينهما وبعدهما في الواقع، كلما حلت علينا مشكلة تضعني أمام مبادئي ومثالياتي وجها لوجه. ابان الغزو العراقي للكويت، لم أحتمل فكرة ضرب بغداد، لم أتصور هطول القنابل الأمريكية على البيوت العراقية، أسرتني فكرة استرجاع بلدي، لاحقني هاجس خسارتها حد الجنون، الا أن الخلاص الدموي هذا كان يرعبني، وعندما كنت أرفع صوتي بهذه الفكرة لمن حولي من أفراد شعب مجروح ومطعون ومهان كانت أهون الردود تأتي، وما هو الحل برأيك؟ ننتظر ائتلاف عربي يأتي لينقذنا؟ من تعتقدين (يقولونها بسخرية مريرة) سيفوز في سباقه تجاه أرضنا ليخلصنا؟
في 2003، كانت أزمتي (في نوعيتها وليس حجمها) أكبر، كنت أعيش كما كل الكويتيين حالة من الفزع الدائم، الحدود المتجاورة التي كانت ذات يوم منفذ سياحي بيننا وبين العراق أصبحت وحتى تلك السنة نقمة علينا، هذا الخط الصحراوي بيننا وبين أرض دجلة والفرات أصبح نصل سيف على رقابنا، ذكرى هجوم يوم 2 آب/ أغسطس الأسود تحولت الى شبح يطاردنا، كنت، مثل كل الكويتيين أترجى سلاما وأمانا أصبحا عزيزين، انقلبا ذكرى بعيدة لأيام جميلة. وعندما بدأ النظام الصدامي في ارسال عدد من القنابل الى أرض الكويت، تحول الفزع الى رعب عصابي، لاحت ذكرى الغزو مستحضرة معها كل العذابات والخسائر والجروح، وبدا الظلام مستتباً وكأنها بداية النهاية. بدأ ابان ذلك القصف الأمريكي للعراق، بدا وكأنه بارقة الخلاص الوحيدة، فرفعت عقيرتي ضمن آخرين باستنكار هذا العنف ورفض الخلاص المتكرر بهكذا اراقة للدماء، وجاء التعليق بذات سخريته ومرارته وصلابته: وماذا تقترحين؟ نصد القنابل بشبك مرمى كرة السلة المعلق في الحديقة؟ أهي مثاليات تبعثرينها والسلام؟
تفزعني هذه الوقفة مع النفس، اكره هذه المجابهات الداخلية التي تضعني أمام المباديء والمثاليات التي أصبحت في هذا الزمن وكأنها ترفاً لأصحابها المرفهين. نعم، تبدو هذه المثاليات والمباديء وكأنها عملة خاصة «بالمرتاحين»، بالآمنين، بمن يستطيعون في دفء بيوتهم وأمن بلدانهم وأمان لقمتهم وضمان سقفهم، أن يشوحوا ويلوحوا بها أمام الجوعى والخائفين والمحترقين تحت أنظمتهم الشمولية. أتراني لو كنت فعلياً على الخط الساخن في مرمى القنابل الصدامية، أكان ذاك سيكون رأيي؟ لو كنت عراقية فقدت أبنائها لأحد المقابر الجماعية أو زوجها لمعتقل تعذيبي، أكنت سألوح بمباديء الانسانية ونبذ العنف؟ لو كنت كردية تعرضت لكيماوي أو كنت ايرانية قضى أحبتها في حرب اختلقها الرجل المريض، أكنت سأبقى على مثالياتي؟ حقيقة لا أدري.
وها هي وقفة جديدة قادمة، بدأت حوارها الذي سيتجلى سهداً طويلاً لي في ليلتي هذه مع أحد الأصدقاء يوم كتابة هذا المقال. داعش، الخطر الداهم على الأبواب، ما السبيل الى الخلاص؟ كان رأي الصديق هو ابادتهم جميعاً حيث كانوا. يا الهي، زعقت به؟ أتقفز قفزة واحدة للقتل؟ أليس هناك أي وسائل أخرى في الطريق قبل الوصول للدماء المراقة؟ قال: هم يريدون الموت، تلك هي أمنيتهم ونصرهم الالهي، فماذا تتوقعين ممن يعلي الموت على الحياة، ممن غسل كبده من كل حب للدنيا وأفرغ قلبه من كل رحمة بأهلها؟ قلت، الانسان يبقى انساناً، كلنا قابلين للخراب وقابلين للاصلاح، اعادة التأهيل هي الحل، نبحث عن بذرة الخير المدفونة، نبحث عن الانسان ثم نعيده الى قلوبهم، ثم توقفت. تبدت ابتسامة الصديق الساخرة حارقة، ارتدت صورتي المنعكسة في عينيه، ترى ما يفكر في دخيلة نفسه؟ أتراه يحصي الخِراف قافزة فوق السور بينما أنتهي أنا من جملتي؟ أم تراه يتغنى في دخيلة نفسه ببلاهتي و»اكليشيهية» طرحي؟ ابتلعت ما تبقى من الكلمات، وتركت كرسيي وقد غص حلقي بزفرة أبت كرامتي اطلاقها في دموع. ودارت الفكرة، لو كانت داعش عند باب بيتي، تهدد أبنائي، تريق الدماء في حيي وتسحل الناس في شوارعه، أتراني كنت أقول ما قلت؟ فارت غضبتي بتساؤلاتي، ترى لم علينا أن نقف هذا الموقف دوماً في هذا الجزء من العالم؟ لم علينا أن نختار بين السييء والأسوأ وأن نضحي اما بالأمن أو المبدأ وأن نستغني اما عن السلام أو المثالية؟ الا يحق لنا في يوم أن نقول ما نفعل ونعلن ما نؤمن؟ ما هذه النكبة التي نعيشها يوم بعد يوم، ليس سياسياً واجتماعياً ودينياً فقط ولكن نفسياً كذلك، تناقضاً صارخاً يقسرك أن اما أن تضع مبادئك في الثلاجة أو أن تدخل أنت بأكملك في واحدة منها، فما تريد؟ المباديء أم الحياة؟ وهل تلك ستكون حياة؟