لم يكبر إيلان، ولن يكبر مطلقا بعد اليوم، لا يزال إيلان غافيا على شاطئ تركيا، تسري الموجة بهدوء تحت خده الناعم، تهدهد شعيرات رأسه المنسابة، تداعب قميصه الأحمر، باردا ملتصقا بجسده الصغير. كلنا كبرنا عامين منذ الثاني من سبتمبر /أيلول عام 2015، كلنا نمنا لياليَ سعيدة وحزينة، صحونا تحت شموس مشرقة وكئيبة، كلنا سرت الأيام بنا، بين حب واشتياق، لقاء وفراق، نزهة، رحلة، فرحة، وعكة، عزلة، حزن، كلنا نرسم الأيام وترسمنا، إلا إيلان، نائم على خد الموجة، يفترش التراب ويلتحف السماء.
جنسنا جنس غريب، عظيم وفظيع في الوقت ذاته. يقول علماء الأنثروبولوجيا إن جنسا آخر لم يستطع الصمود أمام جنسنا، إمّا أنه توّحد به أو فني على يديه. وعْيُنا هو عطيتنا وهو نكبتنا في الوقت عينه، وعيُنا جعلنا نبني ونصنع ونطوّر حتى تحكّمنا بهذه الكرة المستديرة واكتشفنا نمنمتها في هذا الكون الفسيح، ونمنمة وجودنا الضئيل معها، فهمنا حجمنا غير المنظور في هذا الكون، وها نحن نحاول الآن استيعاب فكرة الزمن التي لربما أجمل مَنْ شرَحها هو د. ريتشارد دوكينز حينما قال ما معناه: تخيل أن الزمن مثل بقعة ضوء تسري على خط مستقيم، عندما تتسلط بقعة الضوء هذه عليك فأنت حيّ، ونسبة حدوث ذلك ضئيلة جدا، في الغالب نحن إمّا أننا لم نولد بعد، أو أننا ميّتون الآن. كم هي خاطفة بقعة ضوء إيلان.
جنسنا جنس غريب. كلنا نعرف أننا إلى فناء، إلّا أن مِنّا مَن يريد افتراش بقعة الضوء كلها، مِنّا من يريد أن يستحوذ عليها متسلقًا أجساد الآخرين، أن ينعم بضوئها مُعتمًا حياة الآخرين، إلّا أن بقعة الضوء لا ترحم أحدًا ولا تَثْبُت على وجه حيٍّ مهما بلغت صلابته، بقعة الضوء السريعة الجبّارة، تمر مرورها السريع، لتأفِل حيواتنا من بعدها بأسرع مما أنارت، فعلام كل ما نفعل؟ وإلام كل ما نجهد؟ كم هي سخيفة وعديمة المعنى تلك الحياة، ضئيلة، منمنة، خاطفة، غير محسوسة في هذا الكون الشاسع، لا هدف لها ولا معنى من وجودها، وبرغم ذلك كله، هناك من يستغل ثواني ضيائه الباهر، ليعتمها على الآخرين ويكتم شمعاتهم الضئيلة. بكل ما هي عليه الحياة من عدَمِيّة وسَخَف وفراغ، لا نزال نتصارع عليها صراع الوحوش في حلبة يونانية قديمة. حمق هو أم أنانية لا ترى سخف ما تتصارع عليه؟
لا يزال الأسد في عرينه، ينام ويصحو ويأكل ويشرب، يتصور مع عائلته ويحمل أطفاله بحنان وغنج، ولا يزال إيلان راقدا على الشاطئ، أسمر رمله، زرقاء أمواجه، موجة تأتي وموجة تذهب، تتكفل بغسله قبل أن يغيّبه التراب، أو لربما تغتسل هي بجسده قبل أن تغيب بعيدا في عمق البحر، تحمل معها شيئًا منه، شعرة من رأسه، بقعة من جسده، شيئًا منه ليبقى ويخلد في هذا البحر الكبير. إيلان الآن موجة، نسمة، ذرة تراب، إيلان الحكاية التي ستبقى تؤرّقنا، الصورة التي تبقى تشجينا، والتي أتمنى أن تكون هي آخر ما يراها في ذاكرته وهو على فراش موته. لربما سيموت مرتاحا على سرير ناعم، محاطا بأطبائه، بحاشيته، ببطانته التي اغتسلت معه بالدماء، ولكن أين له فراش موت شاسع كالبحر، مشرق كالسماء، ناعم كالرمال المبللة؟ أين له موجة تمر تحت خده، تهدهده، تغني له، تخلده للأبد؟
كل عام وأنت موجة زرقاء، شعاع شمس، نسمة هواء، يا إيلان، عيدك مبارك يا صغير.