بدعوة كريمة من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات تشرفت بحضور منتدى دراسات الخليج والجزيرة العربية المقام في قطر ما بين 3-5 من كانون الأول/ديسمبر في دورته الثالثة والتي أتت مرتكزة على شقين: الأول يدور حول التنويع الاقتصادي في دول مجلس التعاون الخليجي والثاني حول التحديات الإقليمية والدولية التي تواجهها هذه الدول.
وقُدم في المنتدى عدد من الأوراق الأكاديمية المتنوعة التي كان عدد جيد منها غاية في الرصانة والقيمة العلمية، كما تميز بتنوع الأصوات المشاركة وارتفاع سقف الحرية بشكل مثير للإعجاب. ما لفتني كثيراً هو تعدد الأوراق التي تتحدث عن الخطر الإيراني في المنطقة والتي أتت لتعيد ذات الفحوى التآمري بذات اللغة القديمة: المد الفارسي، الخطر الإيراني، التمدد الشيعي، وغيرها من الكلمات التي أصبحت لها رنة مألوفة بعد أن أشبعها عرب المنطقة قولاً وكتابة وتحليلاً.
كانت الأوراق ذات هذا الفحوى المستهلك في معظمها قادمة من الباحثين الأكبر سناً (وإن كنت أذكر إحداها مقدمة من شاب من عائلة خليجية حاكمة) والذين بدوا غير قادرين على تخطي هذه العقدة الى ما بعدها من ظروف جديدة وما تتطلبه من إستراتيجيات متجددة. أما الشباب، ففي معظمهم كتب عن مبالغات هذا الخطاب وضرورة تعديه الى اعتراف بالأمر الواقع المتمثل في الوجود الإيراني «المتلاصق» والدول العربية وإلحاح التعامل معه.
أتت الأوراق التي صدحت بالتنديد «بالخطر الفارسي» لتذكر بأننا فعلاً محتلون من «الفرس» أو «الصفويين» كما يحلو للعرب تسميتهم إمعاناً في الإهانة، وكأننا نهينهم بالإشارة لحضارتهم العريقة وتاريخهم الإنساني الطويل. نحن محتلون منهم فعلياً، محتلون فكرياً بمخاوفنا وأوهامنا ولربما بشعورنا بالضعف والضحالة أمام تاريخهم الطويل وخبراتهم السياسية الممتدة. لقد احتلنا «الفرس» اليوم دون أن يحركوا جندياً، دون أن يطلقوا سهماً، إحتلونا بردود أفعالنا، بكراهيتنا وطائفيتنا، أداروا ظهورهم لنا ونحن نشتم ونلعن وننعت، استكملوا طريقهم بصمت أحياناً أو بتعليق متعال أحايين أخرى، بينما بقينا نحن سجناء، محتلين، سجاننا منا وفينا، أغلالنا ألبسناها لأنفسنا برسم طائفيتنا التي أعمت عيوننا.
هل إيران شريرة؟ وهل توجد حكومة طيبة؟ هل توجد دولة عظمى تشكل قوة في العالم ذات توجهات إنسانية أخلاقية وسياسات تخلو من التخابر والتآمر؟ يكفي التدخل العسكري والتمويلي الفاحش لإيران مساندة للنظام السوري المتوحش، يكفي تجييرها لحزب الله، يكفي غزلها لروسيا، لا يمكن نفي الدور التخابري الخطير والتدخلات المؤذية لإيران في المنطقة، ولكن أي دولة عظمى نعرف نحت غير هذا المنحى؟ السعودية دولة قوية في المنطقة، وكذا هي تركيا في الإقليم المجاور، وكذا هي أمريكا الآتية من النصف الآخر من العالم لتحل ضيفاً عنيفاً لن يغادر في أي وقت قريب ولم نعد نريده أصلاً أن يغادر خوفاً وإذعاناً، أليس لهذه الدول تمددات وتخابرات وخطط ونفوذ ومال سياسي يدخل هنا ويخرج ضحايا هناك؟ بل هل يمكن نفي هذه الأدوار التخابرية حتى عن الدول الصغيرة؟ هل ننفي دور المال في ما يحدث في سوريا واليمن مثلاً؟ هل نتخلى عن مسؤوليتنا عما يحدث في العراق؟
إيران قوة، لها نفوذ، لها تطلعات، لكن هل تركت إيران حالها ومحتالها ومصالحها وبقيت فقط تفكر في كيفية القضاء على الوجود السني العربي؟ هل هذا هو هدفها فعلاً؟ هل تلك هي غايتها السياسية النهائية؟
نعم صرح بعض مسؤولي إيران وساستها بأنهم الدولة الإسلامية الحقة وأنهم في انتظار الإمام المخلص ليحرروا العالم من الظلم وينشروا نور الهداية الدينية، نعم حدث ذلك، ولكن ألم يصدر شبيهه من أمريكا وتحديداً في عصر بوش الإبن والذي صرح أنه مرسل من المسيح؟
أليس هناك حلم إسلامي عربي بإعادة هيبة الدولة الإسلامية وما يشبه زمن الخلافة؟ أليس لتركيا ذات التطلعات والتي، على الرغم من حرص أردوغان على خطابه العلماني، يفلت تمنيها من بين شفاه أردوغان نفسه أحياناً؟
تجاوزاً للإجابات على هذه الأسئلة، يمكننا أن نقول عموماً أن البلد الذي يحترم مواطنيه ويعاملهم دون أي تفضيل طائفي سوف لن تجد فيه إيران ثغرة ولن يكون لها على مواطنيه كلمة، فهم مرتاحون، ليسوا أقلية وليسوا مضطهدين حتى يتركوا بيتهم وينظروا للخارج. أما الدول التي تضطهد أقلياتها الدينية وتعج قبلية وطائفية، فلإيران ولأمريكا ولروسيا وحتى للقطب الجنوبي ألف مدخل ومدخل إليها.
حان الوقت لأن نتعدى الخطاب الطائفي الضغائني القديم، وأن نتعامل مع إيران بواقعية نقيمّ بها حجمنا وقوانا ونعترف من خلالها بوجودها المجاور، فنستغل الجوانب الإيجابية من هذا الوجود ونتعامل بحزم وحكمة مع الجوانب السلبية منه دون أن ننسى أن هذا بلد عمره يفوق الخمسة آلاف سنة، له تاريخ وحضارة طويلان وباع سياسي خطير. ولربما أول طريقة لحماية أنفسنا من أي تدخل أو تخابر أو تآمر إيرانيين هو أن نؤمن أنفسنا داخلياً، أن نرعى مواطنينا وننهي طائفية منحانا حتى لا يجد التآمر الإيراني منفذاً إلينا.
علينا أن ننظر للصورة الأكبر وأن نحرر أنفسنا أولاً وقبل كل شيء من أغلالنا النفسية وإرتعابنا القهري تجاه إيران، هذه الدولة التي لربما أكثر ما يفيدها حالياً هو استخدامنا لها كشماعة لكل مشاكلنا، فتراها تسر لنفسها «الصيت ولا الغنى».
ويبقى السؤال المهم الذي نحتاج للتعامل معه كذلك والذي لربما أناقشه في المقال المقبل، ما هو المطلوب من شيعة الخليج في هذا المنحى؟