في تلك اللحظات التي يشتد فيها الطغيان والعنف، في خضم تلك الأحداث التي تغتسل دموية وكراهية، أجدني أشد تمسكاً بتلك القيم الإنسانية الرهيفة التي، وقد تكون وحدها، تفرقني كبشر عن بقية الخلق الكثير. إنها أشد اللحظات عتياً تلك التي تجعلني أتعلق بأهداب الإنسانية، ببساطة لأنني مخلوق يسعى للبقاء، لأنني أتفهم تماماً أن استمرار حياتي يتطلب تمسكي الجنوني العصابي بحبال الإنسانية الرفيعة التي إن في لحظة استثنيتها كمبدأ وتحت أي تبرير، فإنني أهدد المنظومة الإنسانية كلها، تلك التي لن يكتب لها البقاء والنجاة إلا بتخطيها بدائية الثأر والانتقام إلى حضارية القانون ورفعة العدالة التي تستوجب ألا نسمح لأنفسنا في يوم وتحت أي ظرف أن نهبط دون المستوى الإنساني.
لست في عارض نكران أن كل شهقة آخذها أستنشق معها رغبة بدائية دفينة بأن أفتك بمن بقي من أهل صدام حسين ومن لا يزال يمجده بطلاً شهيداً فتكاً بطيئاً يروي ظمأ حقدي، وعليه أستطيع أن أتصور ما يدور بخاطر المصريين الذي ذاقوا العذاب على يد نظام مبارك أو الليبيين الذين تحلحلت عظامهم في ظل نظام القذافي، يمكنني أن أتخيل ما تذوقته والدة الطفل السوري حمزة الخطيب الذي عُذّب على يد النظام الفاحش، وما تركه المذاق من رغبة هستيرية في الانتقام، أستطيع أن أتفهم حرقة اليمنيين ولوعة البحرينيين وهم يهانون على أيادي أنظمتهم. نعم أفهم حرقة ولوعة اللحظات تلك، ولذا، لا أجد سوى استصراخ الإنسانية لمداواتها. قتل وسحل وتقطيع جسد المجرم لن يخفف من وقع الجريمة، ولكنه سيسرق النزعة الإنسانية من قلوب المنتقمين، سيخلق غابة موحشة في قلب المنتقم، تشتعل فيها النار، كلما زدتها انتقاماً قالت هل من مزيد، انتقام لن يعيد قتيلاً ولن يشفي غليلاً ولن يفعل سوى أن يؤصل بدائية وهمجية تنذر بالمزيد من الوبال وتبشر بأنواع بشر ليست بمختلفة عن المنتَقم منه كثيراً.
ما أحوج الليبيين اليوم، واليوم تحديداً، إلى المبادئ الإنسانية التي يجب أن يتمسكوا بها بكل قوتهم، فهي الوحيدة الضامنة لهم ألا تتحول ليبيا إلى غابة موحشة يأكل فيها القوي الضعيف. أتفهم غضبة الليبيين، نعم، أتعاطف معهم، بالتأكيد، لكن أن أقبل بالتمثيل بجثة الراحل مهما بلغ إجرامه أو بدخول الناس فرادى عليه لتصويره في الثلاجة مهما بلغ عتهه، فذاك ما لا أساوم عليه بعلّة اجترار أوجاع الآخرين وتفهمها، ذاك هو ما ينتهك قدسية الثورة ويهدد مكتسباتها، ذاك هو ما سينقلنا من قذافي مجنون إلى “قذاذيف” عدة ملزومين بلعنة الحقد والانتقام اللذين يهبطان بهم إلى أسفل القاع الإنساني، ويهددان كيان الدولة الحديثة الديمقراطية التي نتمناها أن تكون في ليبيا. لا استثناء لليبيين سماحاً لهم بوحشية مؤقتة ولا تفهم للإعلام العربي الذي أدار صور القتيل في وسائله، كما أدار الخلفاء الأمويون كؤوس الرحى في مجالسهم. لا مناص من أن نعي تماماً أن الإقرار بالاستثناء بسبب حالة، مهما بلغت شدتها، تؤسس للفكرة، وساعتها ستظهر مليون حالة تؤسس لمليون استثناء وتنقلب الدنيا إلى غابة، يسحل فيها الإنسان ويمثل بجثته ويتراقص المنتقمون فوق بقاياه.
ليت مَن كتب متوجعاً لآلام الليبيين، متسامحاً مع العنف والقتل والتمثيل والتشويه بمعية تلك الآلام، ليته أخلص التعاطف وحرص على الإنسان الذي سيكونه الليبي بعد أن يفرغ من الانتقام، بل إذا فرغ منه، فمن يبدأ هذه العملية الحاقدة يصعب عليه التوقف أبداً. ليت من سنّ قلمه مهاجماً “وثار” على العمل الإنساني أن يجرب “الكرسي” ليوم واحد، يوم واحد، قبل أن يريق المداد على جهود الآخرين ملطخاً جهودهم ومبادئهم. إذا كنا نحن، المنعمين بالأمن، المستقرة قلوبنا بالديمقراطية، غير قادرين على تفهم قدسية المبدأ، على تلمس طريق الإنسانية ومساعدة غيرنا على تلمسه، ففي مَن يكمن الأمل؟
“آخر شي”:
يبدو أن النائب مسلم البراك أخذ الاعتصامات مقاولة، أينما كان هناك اعتصام ولى وجهه شطره؟ طيب للتخفيف عن النائب والمعتصمين، فلتقترح يا “بو حمود” قانوناً من خلال مجلس الأمة يلزم الحكومة بمراجعة الرواتب والبحث في الزيادات المستحقة كل خمس أو عشر سنوات مثلاً بدل هذه الشحططة، هذا ونذكركم أن كتّاب المقالات في الجرائد ليس لديهم كادر، وأنا أقترب جداً من الدعوة إلى اعتصام الكتاب في تحرك عنوانه “كتاب العواميد ليسوا بعبيد” ومن شعاراته “كادر كادر للعامود، قبل الكادر ما في قعود”، و”كادر كادر حاضر وماضي والا نترك العمود فاضي” وبانتظار مساندتكم الكريمة، ودمتم.