إذا أردنا حقاً الوصول إلى نقطة ما في موضوع التراشق الطائفي الذي يؤرقنا منذ زمن عوضاً عن دوراننا في حلقة مفرغة، فإن علينا أن نتعامل مع الحدث بمنطقية توصلنا إلى استنتاجات وقرارات يمكن لها أن تخفف من حدة هذا الطرح، أو أن تخفف من وقعه على النفوس في أقل الأحوال. أولاً، لابد أن نبدأ من نقطة أن الخلاف أتى منذ ألف وأربعمئة ونيف سنة ليبقى، أي أن الاختلاف العقائدي والخلاف التاريخي سيلازماننا أبد الدهر، لا مناص من ذلك، ولن تتوقف العناصر المتشددة، وأحياناً حتى المعتدلة، من الطرفين عن النقد اللاذع، فهذا النقد يتأتى من لب المعتقد، وعليه فهو متوقع واللذاعة فيه مرتقبة، كما هو حالها بين مختلف الأديان والمعتقدات الأخرى.
تتأتى أزمتنا في مجتمعاتنا العربية من حقيقة فشلنا في التعامل مع هذا النقد وفي إخفاقنا في طرق تقديمه، فالناس عندنا لا هي قادرة على تحمل آراء الآخرين حول دينهم أو مذهبهم ولا على إسكات أنفسهم عن نقد أديان الآخرين ومذاهبهم، يعطي كل منا الحق لنفسه في نقد الآخر بلذاعة وفي ضرب الآخر إن هو انتقدنا بذات اللذاعة.
تنمو هذه المعضلة الفكرية والتي ينجم عنها هذا التراشق المجتمعي من قصور في فهم مبدأ الحرية العظيم. واقعياً، لن ننجو من هذه الدوامة الا باستخدام الداء بحد ذاته كدواء، إلا بقسر النفس على تجرع مراراته حتى نصل لشهد الاستقرار في قاع القنينة الإنسانية. وعليه لابد أن نعي أن الحرية ليست ترفاً نتمتع به، بل هي عبء مؤلم نتحمله للوصول للترف المنشود، فالحرية تعرضك وإياي لما لا نحب، فتحت مظلتها قد نسمع ما نكره، وقد نشاهد ما نكره، وقد نضطر لأن نقف دفاعاً عن الرأي أو التصرف الذي نعيبه بأنفسنا، ممارسة مؤلمة هي الحرية وهي تقسرك على أن تبلع ما لا يستطيع قلبك أن يهضمه وعقلك أن يقبله ومشاعرك وعاداتك وتقاليدك ودينك وتربيتك أن تستسيغه، فتعاند أنت كل حزمتك الشخصية تلك، وتهبط من علياء كمالك لتقول «قد أكون على حق، ولكن لا ينتقص ذلك من حق جاري شيئاً في أن يعلن ما أظنه باطلاً ويشهره». وممارسة الحرية كحمل الأثقال، تحتاج لتمرين مستمر مؤلم، ومرة بعد مرة، يخف الألم وتقوى عضلة التعايش وتستقر الأنفس متظللة بقانون الحرية العادل الذي إن أباح كلمة سوء، فإن مقابلها ألف كلمة حق ستجد منفذها.
الحل في رأيي لما يحدث الآن من تراشق طائفي مريض هو ذاك: الترويج لقداسة فكرة الحرية، «نتجاوز السلوك ونعتبره كأن لم يكن» كما قال الزميل الجميل فاخر السلطان في تغريدة رائعة له، حتى «تنفقع مرارة اللغاط» وتصغر فكرته الكريهة وينضمر أثرها، ولكن هل نقف ها هنا؟ بل نستطيع الاستمرار، نعطي ظهرنا لـ«الفحاح» الكريه، ونولي وجهنا شطر الناس، فنحكي لهم دون إشاره للكره الذي قيل، نصدر الدراسات ونكتب المقالات ونعقد الندوات فنوضح ونبين ونجر الناس إلى حديث العاقل ولا ننجر خلف حديث الشتام، نرفع الشارع إلى حوارنا ولا نهبط به إلى رخص الحديث. تلك هي الطريقة الوحيدة التي يمكن بها أن تتوقف المعركة الطائفية السمجة التي رفعت كل ساذج وقدرت كل شتام فقط بالالتفات إليهما. لو كنا نؤمن بالحرية الكاملة، لرخص ثمن ما يقولون، فاندرج تحت باب حرية الرأي ولو كان رأياً كريهاً رخيصاً، ولما أعطاه الناس من وقتهم وجهدهم النفسي ما كان يمكن أن يبذل في الترويج لما يؤمنون. إن ردات الفعل المجتمعية والحكومية الحالية، تخلق أبطالاً مجاهدين من هؤلاء، فيعتقد أصحابهم أن شتمهم شجاعة ولغطهم جهاد ديني للطائفة «الناجية» ضد الطوائف الأخرى، وعوضاً عن أن يحد العقاب من الظاهرة، فإنه يدعمها ويقويها بما يضفي عليها من صفة جهادية تزيد من الحسنات كما يعتقد صاحبها. بالهياج المجتمعي والقسوة القانونية اللذين ننتهجهما حالياً، نحن نصب الزيت على النار، وما أدل على ذلك من واقعنا الحالي، فمنذ أن انفجر الشارع وتغلظت العقوبات، هل خف التراشق الطائفي وقبح الحديث أم زاد وتشدد؟ سؤال بسيط إجابته تحتم تغيير مسارنا، وقد، جائز جداً، يغير حتى الطائفي الشتام مساره، ونكسبه في صف الحوار الراقي والتعايش السلمي. ولنتذكر أن ما نملكه هو ليس تغيير كل الناس من حولنا، ولكن تغيير ردة فعلنا تجاه ما يأتيه الآخرون، أن نتحكم بأنفسنا لا أن نتحكم بالآخرين، فلنبدأ بتغيير أنفسنا، ستتغير الدنيا من حولنا.