يتحدث الدكتور علي الوردي في كتابه “وعاظ السلاطين” حول ظاهرة ازدواج الشخصية التي يعانيها العرب المسلمون، حيث يشير إلى أن أهم ما يشكلها هو التناقض الواضح بين الوعظ والرغبات الإنسانية، حيث يقع العربي المسلم دائماً بين رغباته وحبه للحياة من جهة ووعظ الوعاظ واستثارتهم لمخاوفه وتأنيب ضميره من جهة أخرى. يقول الوردي إن الغرب تغلب على هذا التناقض حين أطلق الحريات وسمح للناس بممارسة حيواتهم بشكل طبيعي وبالتعبير عن رغباتهم، حتى إن الجامعات توفر أماكن الاختلاط والاستمتاع بالموسيقى والرقص وغيرها من الرغبات التي تنظمها الجامعة كأحد الأجهزة الثقافية المعنية بصحة الشباب النفسية كما بوعيهم العلمي.
يقول الوردي إن “شر المجتمعات هو ذلك المجتمع الذي يحترم طريقاً معيناً في الحياة في الوقت الذي ينصح الواعظون فيه باتباع طريق آخر معاكس له” (24)، وهو يرى أن “العرب مصابون بداء ازدواج الشخصية أكثر من غيرهم من الأمم، ولعل السبب في ذلك ناشئ عن كونهم وقعوا أثناء تطورهم الحضاري تحت تأثير عاملين متناقضين هما: البداوة والإسلام، إذ إن قيم البداوة تحرض على الكبرياء وحب الرئاسة وتفتخر بالنسب، أما الإسلام فهو دين الخضوع والتقوى والعدالة وما أشبه” (26).
لا تعني كتابات الوردي اتهام البداوة كأصل، بل كأسلوب معيشة صحراوية كان يقوم على التفاخر بالحسب والنسب وكمية الغنائم، وهو الأسلوب الذي كان قائماً في كل بقاع العالم ولكن بدرجات متفاوتة، منها مثلاً اليابان التي عانت مئات السنوات من اقتتال قبائلها. هذا الأسلوب في الحياة والذي كان منتشراً بدرجة أكبر في الجزيرة العربية وبدرجة أقل في بعض المناطق المحيطة بها مثل الشام ومصر والعراق وحتى إيران امتداداً حتى أقصى الغرب الإفريقي، وهي المناطق التي بدأ فيها، ثم انتشر من خلالها الإسلام، هو الذي خلق هذا التناقض الذي يعيشه المسلم اليوم.
تفسر هذه النظرية الكثير من تناقضات حياتنا (في الخليج تحديداً وإن كان التناقض يغطي المنطقة الشرق أوسطية بأكملها) والتي لا يتسم بها بدو دوناً عن حضر أو سنّة دوناً عن شيعة، هو تناقض تبديه جميع مكونات هذا المجتمع قادمة من العراق أو السعودية أو إيران، مسبلة يديها أو ضامتهما، وهو تناقض متوارث من عمق تاريخ كل هذه المكونات الغارق في بداوة الحياة التي كانت قائمة على صفات التفاخر بالنسب وكمية الغنائم. وعليه نجد أن مجتمعنا المحافظ المتدين لا يزال يزوج على أساس الأصل، هذه القبيلة لا تختلط إلا بتلك، وهذه الأسرة لا تتزاوج إلا مع هؤلاء، مجتمع لا يزال شديد الطبقية، الغني لا يختلط بالفقير والفقير لا يختلط بمن هو أفقر منه. مجتمع أغلبه يخرج الخيرات ويقيم الصلوات ويحتفي بشهر الصيام، لكنه يقوم في أساسه على العلاقات الاجتماعية وتشابكها، فلا يكترث رغم كل مظاهر الورع والتقوى أن يستخدم الواسطة ليأخذ حق غيره. مجتمع أغلبه لا يقبل بإشهار المفطر أو شرب الخمر أو مجرد الرقص الحي في أماكن الترفيه العامة، لكنه لا يستحي أن يزوّر ورقة طبية وأن يصرف رواتب لوظائف وهمية، ولا يخجل من أن أكبر مشاكله التعليمية كما ذكرت إحدى الصحف هو الغش في الامتحانات وعدم العدالة في التقييم ورصد الدرجات. مجتمع أغلبه متدين ورع، تأسست فيه عدة حركات إسلامية مهمة في المنطقة، ولكنه يقف بعدد جيد مؤيد لدعوات تهدم مبادئ العدالة وحقوق الإنسان، هاتفاً خلف كل فم يستصرخ فيهم غوغائية الأصل والفصل وأصالة الانتماء وتجذر التاريخ، وكأن كل هذه المبادئ لا تتنافى مباشرة مع الدين الذي يحيون به وينامون، والذي من أجله يسنون القوانين وفزعة له يحبسون الناقد أو المختلف. كيف تستقيم هذه الفزعة للدين مع كل أساليب الحياة الخربة الأخرى؟
لربما هو الوعظ المستمر الذي يوقع الناس في التناقض أولاً، وهو تاريخ البداوة القديم الذي توارثه أغلب بشر المنطقة والذي تأصل فيهم أبعد من تأصل كل دين أو قيمة أو مبدأ جديد ثانياً. لذلك نحن نعيش حياتين وبوجهين وسنموت عليهما، لكم جميعاً طولة العمر، الى أن يأتي زمن يسمح لنا أن نكون بشراً طبيعيين أولاً ثم يمسح عنا تاريخ قبلياتنا الإنسانية القديمة ثانياً. إلى حينها، كلنا بوجهين.