كنت قد كتبت في عمري التويتري عدد محدود جداً من التغريدات عن النائب السابق مسلم البراك، ربما ثلاثة تغريدات أو أكثر قليلاً إذا أسعفتني الذاكرة، دوماً ما كانت تسبب انفجارات تثير التعجب والإعجاب في ذات الوقت، تعجب من العقلية العربية في نظرها لسياسييها، وإعجاب بقدرة رجل على خلق مريدين بهذه الصورة التكريسية. رد الفعل هذا ليس حكر على السيد مسلم البراك، إنما هو ظاهرة تحيط بأي حوار عن “رمز” شرق أوسطي، رمز من صنع الشعوب، رمز يكبر ويتضخم على حسابهم، رمز ينفجر أو تنفجر ظروفه في نهاية المطاف في وجوههم هم بحد ذاتهم.
أحكي لكم تجاربي التي تتشابه مع (وإن كانت تتواضع عن) تجارب الكثيرين. حين كتبت أنتقد حسن نصر الله، قامت الدنيا وما قعدت في المحيط الشيعي تحديداً، “فالسيد” رمز لا يحق لي المساس به، هو ليس قابل للنقد، وحين كتبت أنتقد الرئيس عبدالفتاح السيسي، قامت معارك لا تريد أن تنتهي، وخسرت أهل وأحباب من أرض الكنانة لأن السيد الرئيس رمز لا يحق لي المساس به، هو ليس قابل للنقد، وحين كتبت أنتقد مسلم البراك انفجرت البراكين، وسالت الاتهامات، فالنائب السابق رمز لا يحق لي المساس به، هو ليس قابل للنقد. تشترك حجة المعترضين المستائين دائماً في أن هدف النقد رمز، خط أحمر، بطل مخلص لابد دائماً من إغتفار زلاته وتذكر محاسنه وإبداعاته. هذا ويشترك المعترضون (هؤلاء منهم الذين يحاولون إبداء الاحترام لمبدأ النقد) دوماً في حجة أخرى ألا وهي: أن هذا ليس هو الوقت المناسب. السيد حسن نصرالله في حرب مع الإسرائيليين، هذا ليس وقت مناسب للنقد، الرئيس السيسي في حرب مع الاخوان المسلمين ومع فساد مستشر في البلد، هذا ليس وقت مناسب للنقد، مسلم البراك يخوض صراعاً ضد سراق المال العام، هذا ليس وقت مناسب للنقد، هو يقف أمام الحكومة، هذا ليس وقت مناسب للنقد، هو الآن في السجن، هذا ليس وقت مناسب للنقد، هو الآن منفي خارج البلاد، هذا ليس وقت مناسب للنقد، لا يمكن أن يوجد وقت مناسب أبداً لنقد الرمز، فالرمز يتعدى الزمان والمكان، ليصبح كل زمان زمانه، محولاً إياه لكينونة عصية على كل شيئ سوى الحب التقديسي.
وفي الذكرى الخامسة عشرة لحصول المرأة الكويتية على حقها السياسي كتبت أذكر بمن صوت ضد الحق، منهم الدكتور وليد الطبطبائي والدكتور فيصل المسلم، حيث أفردت للأول تغريدتين أذكِّر فيهما ببعض ما جاء على لسانه من إساءة تجاه المرأة ومن تشويه لفكرة ممارستها لحقها، الا أن الزوبعة ما قامت الا لذكر مسلم البراك، فما أن أتى نقده في تغريدتي، حتى تحولت الى شريرة متنفعة بل ومنانة ذلك لأنني ذكرت في تغريدتي أن ذات النساء، وأنا فقط واحدة متواضعة بينهن، اللواتي صوت البراك ضد حقوقهن، هن من يقفن في الصفوف الأولى والأقوى للدفاع عن حرية الرأي، وبالتالي عن حق البراك في حرية التعبير والعودة لأرض الوطن. وفي الحقيقة أنني لم أقصد المن بسبب ممارسة مبدئية، فالمبدأ لا يتطلب من ولا شكر، ولكن إن فهم ذلك من التغريدة فلا بأس، نعم، لربما يجب أن تمن اليوم نساء الكويت على من خذلهن وساندوه ولا يزلن، ولم لا؟ سنوات والسيد البراك ينجح بأصوات من صوت هو ضدهن، وها هن يقفن دفاعاً عن حقه الآن، هذا الموقف السيئ مقابل هذا الموقف المبدئي لا يحق التبيان والتوضيح؟ هو يستحق، بل ويترجى فخر نساء الكويت بمواقفهن المبدئية التي دوماً ما تكون أكثر وضوحاً ورسوخاً حتى من مواقف الرجال، مع الإعتذار من نصف مجتمعنا “الآخر.”
ونعم ما أتاه البراك هو جزء من الممارسة الديموقراطية، ولكن هذه الممارسات تشكل مواقف هي التي تقدرنا على تقييم الأشخاص أمامنا ومدى استحقاقهم لثقتنا وبالتالي لإعادة إنتخابهم من قبلنا. تصويت البراك في قانون حق المرأة السياسي لم يأت معزولاً عن مواقفه السياسية أو الاجتماعية الأخرى، الرجل صوت مع إعدام المسيئ، مع إسقاط القروض، ضد حق المرأة السياسي، وغيرها من المواقف السياسية والاجتماعية التي شكلت منهجاً واضحاً له لا أخطاء متفرقة. كنت قد كتبت في 24/4/2016 مقال بعنوان “لم يندم أحد” في جريدة الجريدة جاء فيه التالي، أذكره لأوفر على نفسي عناء ترديده مجدداً في هذا المقال:
لا ننسى التصويتات ضد حقوق المرأة السياسية، ومع قانون الإعدام للمسيء، وكل التصويتات والمواقف السابقة التي لم تأت في يوم بجانب الحريات أو الحقوق، فهذه شعارات ما بدأت تظهر وتقال إلا إبان الحراك الفاعل للمعارضة لإضفاء وجه حضاري على رموزها الذين نعرفهم ومواقفهم من الحريات جيداً. لا ننسى المواقف الماضية المحابية للاستجوابات، لا ننسى اللغة التي أسس لها رموز المعارضة، انحدار في أسلوب الكلام، صراخ وزعيق وتهييج للشباب، لا ننسى الألفاظ المستخدمة والتعابير النابية والتي دخلت في عمق الضمير الشبابي اليوم حتى أصبح تداولها مقبولا ودليل شجاعة، و”تويتر” أفضل مثال. لا ننسى التأسيس للمحاباة الأسرية والقبلية والطائفية التي كانت معلقة فوق رؤوس الرموز، لا يمكن أن ينكرها أحد، حتى ملأت وسائطهم البلد، وامتلأت مقاعد البطالة المقنعة بأقاربهم وناخبيهم يقبضون رواتب لوظائف لا حاجة للدولة بها وفي أحايين كثيرة لا يذهبون لمقارها أصلاً، لا ننسى المواقف الطائفية البغيضة لبعض الرموز، والذين لا يزالون يبثون سموم فرقتهم بين الطائفيتن إلى اليوم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لا ننسى الداو، لا ننسى الدفع بالزيادات المطردة الهوجاء للرواتب والمزايا ولإسقاط القروض أو فوائدها حتى أوصلتنا اليوم إلى مفترق طرق، ووضعتنا في عنق زجاجة لا نعرف كيف نخرج منه، وها هي أزمة إضراب عمال النفط (مع التأكيد على أن الإضراب حقهم الخالص) تصوبنا في العمق، أزمة خلقتها الرعونة السابقة والتجاوب الأهوج الحكومي معها. لا ننسى التحالفات السابقة مع الحكومة حين كان الرموز أفضل الأصدقاء، ولا ننسى كيف انقلبت الأحوال وتبدلت الحظوظ وما نتج عن كل ذلك. والآن يجب ألا ننسى أن هذا النهج مستمر، بمخلفاته القديمة وبمستجداته الحديثه، لم يتغير شيء، لم يندم أحد.
بالنسبة لي، لم تختلف المنهجية طوال تاريخ السيد مسلم البراك وأغلبية رموز المعارضة السابقة، حيث لم يتغير موقفي منهم من البداية، وما زادني مرور الزمن سوى تيقناً من موقفي ومن منهجيتهم. إذن، حين صوت البراك ضد حقوق المرأة السياسية هو كان يتصرف ضمن العملية الديموقراطية والتي لها مخرجات جيدة وسيئة، وحين ذكرت أنا أنه من المخرجات السيئة كنت أنا كذلك أتصرف ضمن العملية الديموقراطية ذاتها، هذه العملية التي ليس فيها رموز مقدسين، فيها بشر يخطئون أكثر مما يصيبون، ويستحقون النقد قبل المديح، هكذا هي اللعبة السياسية ومن يرى نفسه أو غيره فوق النقد، كما كنت قد كتبت ذات مرة حول السيد حسن نصرالله، فعليه الا يدخل هذا المعترك وأن ينصح الآخر “المقدس” بعدم دخوله كذلك.
ومن ذات المنطلق، كان السيد مسلم البراك، في صراخه إبان جلسة حق المرأة السياسي، والذي هو أسلوبه المعتاد في جلسات مجلس الأمة، فأنا أكاد لا أذكر جلسة تخلو من صراخه أو ندوة له تخلو من هياج أسلوبه، أقول من ذات المنطلق هو كان يمارس حق نيابي ديموقراطي اعتراضاً على تصرف حكومي، الا أن الاسلوب والطريقة يراد بهما باطل (في رأيي بالطبع) خصوصاً وأن رئيس المجلس وقتها حاول تهدئتهم بالتأكيد على أنه “بصوت على طلبكم يا مسلم” ولكن وكالعادة، أكررها، كالعادة، تعالى الصراخ مداً للجلسة ومحاولة لاجهاض هدفها، مرة أخرى، في رأيي بالطبع.
وعليه، وعلى أنني معجبة بالقدرة على تقديم مثل هذه المحبة الغير مشروطة للسيد مسلم البراك، والتي لربما هو يستحقها من وجهة نظر البعض، فهي ظاهرة نفسية تثير الإعجاب فعلاً، إلا أن ترميزه وتقديسه هما خارج اللعبة الديموقراطية التي حاول الكثيرون تذكيري بها. مسلم البراك قابل للنقد، والنقد الشديد وفي أي وقت، مثلما هو أي انسان يظهر على ساحة المعركة السياسية. فأن يتم وضعه على قاعدة رخامية وتقديم فروض الولاء الغير مشروطة له فهذا في رأيي هو ما خلق الأبطال الخطرين في عالمنا الشرق أوسطي والذين تنتفخ أناهم بتقديسنا الى أن ينفجروا في وجوهنا فيحرقوننا وأنفسهم أجمعين. وعليه سأبقى أنتقد وأبقى أذكر وأتذكر خصوصاً وأن المواقف لم تتغير ولم يتم الاعتذار عن سابقها أو تعديلها، كما وسأبقى “أمن مناً حسناً” بموقف نساء الكويت الرائع مقابل موقف النواب المتخاذل تجاه حقوقهن السياسية رغم مبدئية الموقف واستحقاقه، فهذه المبدئية وهذا الاستحقاق لمساندة حرية الرأي والعودة للوطن لا يعنيان أن ننسى تضارب المواقف ولا أن نتناسى الإساءة التي ردتها نساء الكويت بالإحسان.
كل ذكرى نسائية ونساء الكويت ورجالها بخير، كل المحبة للجميع، ابقوا بخير وأمان.