بناءً على طلب قراء وأصدقاء أعزاء، نستريح هذا الأسبوع من أحاديث الصراعات والسياسات البغيضة، ونعود إلى حديث الشجن، وقصتي اليوم قد تكون شجية حزينة لكنها ذات نهاية سعيدة، جميلة نتائجها، عظيم درسها، محفور أثرها في القلب إلى اليوم الذي يتوقف فيه عن الدق والتذكر.
اليوم كان الخامس عشر قبل تحرير الكويت، صبية أنا على وشك بلوغ التاسعة عشرة، أرقد على سرير المستشفى الأبيض وفي يدي طفل صغير أسمر أقرع، بدا لي حينها وكأنه لعبة اشتراها لي زوجي، الشاب اليافع الواقف على طرف سريري.
بعد أن أذّن الرجال في أذنه، وشوشت أنا له “حرية، حرية”، ثم اختطفه والده مني ووشوشه “ليكرز، ليكرز” اسم فريق السلة الذي يشجعه بتعصب وإخلاص. ضحكنا بفرحة كانت غريبة على قلوبنا منذ أن اختطفت الكويت منا، تأملنا وجه الصغير وتبادلنا أمنية نريح بها بعضنا بعضا، أن الصغير وجه خير، وعلى مولده سيتحرر وطننا وسنعود آمنين.
ومع نهاية اليوم، أخذت الممرضات مني لعبتي الصغيرة، واستسلمت أنا لنوم عميق استحضره جهدٌ مر به جسدي لم أخبره من قبل، ليحضرني لوعيي طبيب الولادة عند حوالي الساعة الواحدة فجراً، مخبراً إياي، بتلك الطريقة العلمية المحايدة الصريحة، أن صغيري يعاني تسارعا في أنفاسه، وأن ذلك قد يكون بسبب ولادته المبكرة بعض الشيء أو قد يكون بسبب نقص في الأكسجين قد يؤدي إلى… فقده. جلست في سريري أحاول استيعاب الموقف، ما إذا كان حلماً أو حقيقة، لتدخل علي ممرضتان بالصغير، ملفوفاً بأنابيب عدة مغروسة بإبر في ذراعه البضة وموصولة بأجهزة على سريره الصغير.
صغرت الدنيا فجأة وأطبقت على صدري، انتبهت إلى أن أنفاسي تتلاحق، وأن الماء يغطي وجنتيّ، وأن صوتاً كأنين قط جريح يخرج من حنجرتي وليس لي على كل ذلك من سبيل. تلقفت الصغير والممرضتان الحاضرتان تهدهدانني محاولتين إيقاف رجفتي. أنظر إليهما عن بعد، وكأنني في أعماق بئر سحيق، لا أستوعب مغزى محاولاتهما المستمرة لتهدئتي إلى أن اكتشفت أنني ما زلت أئن بنواح خافت مستمر.
نظرت في وجه الصغير، حضرني فجأة شعور طاغ ملح بالدفاع عنه، تملكني عناد غريب أن لابد أن يعيش هذا الصغير ويكبر، كنت قد اخترت له كل مسيرة حياته قبل أن يولد، ماذا سأفعل بهذا المخطط إن استسلمت الآن؟
أزحت أيدي الممرضتين عني وعن طفلي، أبعدت كل تلك الأنابيب التي وقفت بين وجهه وحضني، وضممته إلى صدري، ليأخذ وجبته الأولى في الدنيا. فجأة استكان الصغير واستراح خده بجانب قلبي، وفجأة هدأت أنفاسي وخفت الأنين الغريب الذي كان يصفر من حنجرتي، استلقيت على السرير وأنا أضمه إليّ بقوة، ونمنا ونحن تحت أنظار الممرضتين اللتين أبتا تركنا خوفاً من أن أخنق أنا صغيري ضماً وحباً.
أقبل زوجي في الصباح الباكر، ليجد عجوزاً في جسد الصبية زوجته، امرأة كبرت خمسين سنة في ساعات ليلتها المهيبة، وليجد ولي عهده ملفوفاً بالأنابيب، موصولاً بجهاز يعد عليه دقات قلبه. تطلعت إليه، فوجدته يحمل معه وطناً ضائعاً، لأول مرة لمحته رجلاً شريداً لا يدري ما الصنيعة بأسرته الجديدة، يبدأ حياته بها دون مأوى أو وطن. تلاصقنا ثلاثتنا، انحنى علينا زوجي، فضمنا معاً في حضن واحد، وعدني أن الكويت ستعود، ووعدته أن الصغير سيكبر، وعدني أنه سيعيد لي وطني، ووعدته أنني سأحافظ على ولي عهده، تناثرت الوعود لا ضامن لها سوى محبة في القلب تسوغ نثرها وتأكيدها بل الكذب حول حقيقتها.
عادت الكويت، وكبر ولي العهد في كامل صحته وشبابه، تحققت الوعود وسلم الوطن وكبرت أسرتي الصغيرة، وفي داخلي هرم لا يزول وخوف لا ينضب. علمتني ليلة المستشفى هذه أن شعور الفقد حارق وأن القدر مخادع، أن الأسى يأتي أحياناً بقوافل وأن الخسائر تتكاتف في أحلك الساعات، ولكنها دربتني تدريباً مريراً على عناد الأمل، أن أستجديه وأستحضره في أحلك أوقات الدنيا، وأن أبقيه معي إلى آخر لحظة، فإما أن يتحقق الخير وإما أفنى وأنا مازلت أتمسك بأهدابه… هذا الأمل.
إلى اليوم، وفي أقسى الظروف وأحلك المواقف، أتذكر أنفاس صغيري وملمس قميص زوجي وأنا قابعة معهم في كتلة واحدة على سرير المستشفى، فيعودني الأمل مهما قست الدنيا، ويمتلئ قلبي بالعزيمة مهما تكالبت المحن، عادت الكويت وكبر الصغير، ولا شيء بعدهما على الأمل والعزيمة بكبير أبداً.