نفتخر نحن في الكويت دوماً بحريتنا الصحافية، نقارنها بما يحوطها من حريات خليجية وعربية، فننتفخ زهواً بأننا نستطيع أن ننتقد رئيس الوزراء مثلاً بكل أريحية ثم ننام ليلتنا في بيوتنا آمنين، تجدنا دوما ما نعزي أنفسنا في حرياتنا الشخصية التي يلتهمها متطرفونا ومن يجاملهم من متحررينا أصحاب نظرية “نعم للحرية لكن عندنا عادات وتقاليد”، بمقولة اتساع حرياتنا السياسية، فتجدنا نطبطب على أنفسنا ونسر لها أن الحمد لله على الحريات السياسية، فهي أهم من تلك الشخصية المكفولة في دول مجاورة، يستطيع أصحابها أن يلبسوا ما يشاؤون ويحتفلوا كما يريدون ولا ينبسوا بكلمة عن هذا القائد أو ذاك المسؤول. هكذا دوماً كنا نقول لأنفسنا، إلا أن عزاءنا هذا بدأ ينكمش يوماً بعد يوم، بعد أن تبدت حقيقة مؤذية هي أمام أعيننا كل يوم ونقاوم نحن رؤيتها: ما حريتنا سوى سجن كبير يكبل أفواهنا ويمنعنا من الفعل الحقيقي، حريتنا هي أكذب واقع في حياتنا.
نحن أحرار أن نقول ما نشاء، وتلك حرية “أنعمت” علينا بها الحكومة والسلطة، وما أذكاها من هبة، الشعب متروك له أن يهدر ويرعد، فقط ليفقد كل طاقته في هذا الحديث الخاوي، يفضفض وينفّس، ويحمد الله على نعمة التنفيس غير المكفولة لمن حوله، ثم يتهاوى مرهقاً غير قادر على تغيير حقيقي. خذ عندك مثلاً، نحن لنا مطلق الحرية أن نتكلم عن الفساد والمفسدين، عن السرقات والإيداعات، عن الخراب والواسطات، ولكن، ويا للغرابة، لا شيء أبداً يتغير، لنا أن نحكي ونشكو ونرغي ونزبد، ولا تؤثر كلماتنا المبثوثة ولا شكوانا المنشورة ولا حتى معلوماتنا المكشوفة في تصرفات وتوجهات أصحاب القرار، إنها خطة محكمة يتركنا من خلالها المسؤولون نتلوى ونزعق، بينما “قافلتهم تسير” لا توقفها شكوى ولا تعطلها غضبة، بل لا تؤخرها دقيقة أي فضيحة مهما كان حجمها. لربما ما لفتني للموضوع اليوم هو الصور التي تملأ وسائل الاتصالات الاجتماعية عن تصرفات العرب عموماً، والكويتيين تحديداً في الخارج أحياناً، وهذا موضوع آخر، إلا أن الكلام الدائر بين الناس، أن هذه الأعداد الهائلة من الكويتيين المبثوثة في ربوع أوروبا هي نتاج وساطات العلاج في الخارج. لأيام الآن، كلما جلست مع أحد الأهل أو الأصدقاء، كل له قصة يحكيها، عن “واسطة” سمع بها بأم أذنه أو قصة استغلال لا يكاد يصدقها شاهدها بأم عينيه. تقول لي تلك الصديقة، إنها تعرف أن إحداهن تشترط المكان الذي تريد الذهاب إليه كل سنة، فتطلب ألمانيا لأنها ملت أميركا أو لندن لأنها زارت فرنسا العام الماضي، ويروي لي آخر عن منافع العلاج في الخارج، من رفع عدد المرافقين واليومية النقدية الكبيرة التي تخرج للمريض ومرافقيه، وكل ذلك يذهب بالدرجة الأولى لصاحب الواسطة الأشد وليس المرض الأشد.
ما يفقع المرارة هو أننا كلنا نعلم بقصص الوساطات القبيحة تلك، ولربما كلنا يعلم بتغلغلها تحديداً في موضوع العلاج في الخارج، كلنا يتحدث ويرغي ويزبد، كلنا قادرون على أن نكتب ونشتكي ونتحدث ونحن آمنون على أنفسنا وحياتنا، والسبب؟ لأن كلامنا غير مؤثر، لأن زعيقنا غير محسوب، لأننا تكلمنا أم لم نتكلم ستظل الأمور على مناهجها والقلوب على لواعجها، لذلك، ولذلك فقط نحن آمنون.
حريتنا سجن كبير، فبها يمنعون التغيير، من خلالها يعيقون الإصلاح، يكبلوننا بحريتنا البسيطة لأن زيادة الضغط على الحرية تؤدي إلى الانفجار، لذا يتركون لنا الحبل قليلاً، نقول، ثم نحمد الله أننا نستطيع أن نقول، ثم نرتعب من فكرة أن يأتي يوم لا نستطيع فيه أن نقول، فنكتفي بالقول ولا نزيد، فعصفور الكلام في يد أفضل من الحريات والتغيير الحقيقيين على الشجرة، وهكذا تحبسنا حرياتنا الموهومة، ليصبح هاجس فقدها أغلالاً في أعناقنا.
لمَ لا يلتفت أحد لما نقول؟ لمَ يختفي أثر صوتنا، شكوانا، بل كشفنا للمستور الفاسد؟ لماذا تتجاهلنا الحكومة؟ لربما لأننا شعب “الله لا يغير علينا”؟ نرتعب من التغيير فلا نزيد عن التنفيس الخفيف، واليوم، حتى هؤلاء الذين “أثقلوا العيار حبتين” ونفّسوا شوي زيادة، دفعوا الثمن غالياً، وكله بالقانون. المهم أنك تستطيع أن تنتقد رئيس الوزراء وتنام في بيتكم، فهذا إنجاز لو تعلمون عظيم. خلينا نايمين أحسن.