أقبلت عليّ وهي مرتبكة، تبدو مأخوذة ضيقاً بموضوعها، أخبرتني أنها نباتية تامة vegan وأنها تنشط في الترويج للنباتية من منطلق أخلاقي، وأنها تلاقي صعوبات جمة في تسويق قضيتها. سألتها أين المشكلة؟ ما الذي يمكن أن يكون خطيراً وضاغطاً في الترويج للنباتية؟ أخبرتني أنها كلما تكلمت في الموضوع قابلها الآخرون بالحجة الدينية أن أكل اللحم حلال، بل وهاجمها آخرون بأخلاقية هذا الفعل من منطلق أن الأضحية الحيوانية واجبة في عيد الأضحى ومرغوبة جداً في الأعياد والمناسبات الأخرى. نصحتها ألا تروج لقضيتها من منطلق أخلاقي، وأن تتحدث عن النباتية كمذهب بيئي يسعى للحفاظ على الطبيعة وتوازناتها، لكنها أصرت على أن للموضوع بعداً أخلاقياً. نصحتها ألا تدفع بالنباتية كفعل واجب وأن تروج له كخيار أفضل، لكنها أصرت على أن للموضوع بعداً مستوجباً. نصحتها أن تأخذ الموضوع خطوة بعد خطوة، لكنها أصرت على أن البيئة في خطر وأن تحركها يجب أن يكون أسرع. نصحت ونصحت، بالتمهل والتوازن، فيما جذوة شبابها تدفع بها للإسراع والإسراف. كم هو مؤسف أننا نضطر إلى أن نلجم شبابنا لتضارب بعض قضاياهم مع مفاهيم دينية غير قابلة مطلقاً للمراجعة وإعادة القراءة، فإلى متى سيتحمل الشباب وإلى متى ستتحمل هذه المفاهيم الدينية؟
قد يبدو موضوع الشابة هذه ضئيلاً في عالمنا، هذا العالم الذي يؤكل فيه البشر لقمة سائغة، فيما تسعى هذه الشابة لحماية الحيوانات ولإضفاء قدسية ومعنى لحيواتها ووجودها. إن مواضيع الرأفة بالحيوان وإحقاق حقوقه هي مواضيع ليست شائكة فحسب، لكنها مواضيع بلا جمهور في مسرح فيه من الأحداث الدامية ما يكفي ويفيض ليبعد النظر عنها. فلا الإنسان عندنا قد اكتملت له إنسانيته حتى يلتفت إلى موضوع حقوق الحيوان، ولا قراءة المفاهيم الدينية لانت حتى تحتوي هؤلاء الذين تطورت رؤيتهم الحقوقية لتذهب إلى ما هو أبعد من «مميزات» الرجل لتشتمل على حقوق الإنسان غير المسلم أو حقوق المرأة على سبيل المثال، دع عنك حقوق الحيوان. كيف أقابل هذا الخطاب، سألتني الشابة؟ ماذا أٌقول حين يحاججونني بأن الدين يفرض علينا ذبح الحيوان وتفريق لحمه، وبأن أي محاولة لتغيير مسار هذا الخطاب هو تضاد وتضارب مع تعاليم هذا الدين؟
نظرت إليها لأرى في عينيها حيرة وألماً حقيقيين. رق قلبي لشباب وشابات يملأون بلداننا العربية، لديهم أفكار وقضايا وتساؤلات، كبيرة وصغيرة، مهمة وهامشية، لكنهم دائماً يخشون ردة فعل الخطاب الديني الذي يبدو أنه لا يتركهم في حال سبيلهم أبداً. الأيادي مكبلة، والعقول مخوّفة دائماً بالحرام والممنوع، حتى أصبح التعبير عن القضايا أكبر وأخطر من القضايا بحد ذاتها. قالت لي إن هذه القضية قضية حياتها، لكنها تشعر أنها وقضيتها لا مكان لهما في ثقافة مجتمعها، فكيف يمكنها أن تقنع الناس «بخطأ» تصرف مباح ومشرع، بل ومحمود مرغوب؟ قلت يمكن لذلك أن يحدث في قضيتك كما حدث في العديد من القضايا الأخرى: العبودية التي كانت مباحة ومشرعة، بل ومحمودة، أصبحت اليوم جريمة أخلاقية، والزواج بالصغيرة الذي كان مباحاً ومشرعاً ومحموداً أصبح اليوم جريمة إنسانية، ونشر العقيدة بالسيف الذي كان مباحاً ومشرعاً، بل ومحموداً، أصبح اليوم جريمة دولية. تتغير القراءات الدينية وتفاسير النصوص بتغير الزمن، وكما تغيرت هذه القراءات، قد يتغير فهمنا لعلاقاتنا بالأحياء من حولنا من حيوان ونبات ومن منطلق ديني كذلك، ليس ذلك ببعيد أو عسير على النص الديني أو على المفكرين والفلاسفة. نظرت إليّ بنصف ابتسامة رددتها أنا عليها، تنهدت فربت على كتفها، غادرت هي مستقيمة وغادرت أنا محنية، كل وما تحمل وتعرف.
نحن مجتمعات طاردة، لا نحتوي شبابنا بأفكارهم وقضاياهم المتجددة، نعنفهم بسبب أي محاولة خروج من الصف، وننبذهم لتبنيهم القضايا الجديدة التي يفرضها العالم الجديد الذي نصر على أن نعيش خارجه. لن تكون النهاية جيدة، وسنكون نحن الثقافة البشرية الوحيدة التي ستخلق هوة عميقة بينها وبين أجيالها القادمة بلا أي جسور، كأننا فقدنا حلقة وصل «جيلية» بيننا. لا تخوفوا الصغار، دعوهم يصنعوا أعرافاً أخلاقية جديدة، لربما ينقذون شيئاً، أي شيء.