تلعب بعض وسائل الإعلام الغربي لعبة مفضوحة في محاولة تورية صورة إرهابي نيوزيلندا أو تحريف مفهوم فعلته الإرهابية تخفيفا وتبريرا وذلك دفعا بالإرهاب الفكري والتطرف الديني والفساد السياسي بعيدا عن ساحة الأيديولوجيات الأوروبية وإلصاقا لها بالآخرين “البنيين” الذين يأتون من العوالم النامية بإرهابهم وعنفهم الذين يروعان العالم المتحضر.
في الواقع، ليست هذه بمحاولات جديدة؛ لا زلت أتذكر كيف كانت قناة CNN تعلن، قبل الألفية الجديدة التي أتت بصحوة معلوماتية حول الموضوع، أخبار صراع الفلسطينيين مع الاحتلال الإسرائيلي: “قُتل أربعة جنود إسرائيليين، ومات مئة فلسطيني” في محاول للتلاعب بالألفاظ لتأكيد مقتل الإسرائيليين، فيما الفلسطينيون هم ببساطة يموتون، لربما من نزلة برد.
قناة The Feed وضعت مقطعا تستعرض فيه بعض المحاولات الإعلامية لتحسين صورة الإرهابي وتبرير فعلته، فمثلا The Daily Mirror كتبت عنوانا للحدث كالتالي: “Angelic boy who grew into an evil far-right mass killer” وصفا للقاتل بأنه كان “فتى ملائكي”، وهو وصف أتى مشفوعا بصورة بريئة لهذا القاتل محمولا من والده، وذلك دون إرفاق أي صور لضحايا فعلته الشنيعة مع الخبر.
جريدة The Daily Mail تتحدث كيف أن “الفتى الأشقر الصغير تحول إلى قاتل يميني متطرف” حيث أن والده كان مصابا بالسرطان. هذه الأخبار كانت تنشر في خضم الأحداث، وحيث التحقيقات لا زالت مستمرة، وبعد أيام فقط من الحادث البشع.
جريدة أخرى وصفت القاتل على أنه رجل من الطبقة الوسطى، وكأن لطبقته الاجتماعية علاقة بفعلته أو قدرة على تبريرها، فيما تحدثت جريدة مختلفة عن أنه كان مدمنا لألعاب الفيديو العنيفة.
هذا الرجل الذي كتب “مانيفستو” من 73 ورقة عن الكيفية التي يجب أن تمحي فيها أستراليا المسلمين من على أراضيها؛ هذا الرجل الذي عرفنا أن علاقاته القوية مع تلك المواقع الفاشية العميقة على الشبكة الإلكترونية والتي يبدو أنها تشكل أرضية صلبة مرعبة لفكرة سيادة البيض وكراهية كل من عداهم وضرورة مسحهم من على الأرض؛ هذا الرجل الوحش المشوه فكريا أظهرته بعض وسائل الإعلام على أنه فتى أشقر بريء، فقد والده لمرض السرطان، فأدمن ألعاب الفيديو التي كانت تساعده على الهروب من ظروف طبقته وحياته.
هذه اللعبة الإعلامية ليست لعبة غربية فقط، بل هي لعبة إنسانية عالمية، ربما مصدرها تلك الطبيعة الإنسانية الأنانية التي لا تستطيع، في العموم، أن ترى أبعد من آلامها وأحزانها وأن تصرح بما يخالف مصالحها وأفكارها.
وعليه، فإن الإعلام العربي، سواء التقليدي أو الإلكتروني الجديد، لم يؤد دور أفضل بكثير. يتم الآن تداول موقف رئيسة وزراء نيوزيلندا، وهو موقف رائع وصلب وإنساني بحق، على أنه يشكل انتصارا للمسلمين وليس للإنسانية والحق والسلام. ربما ستخرج علينا قريبا، كما هو متوقع، شائعة دخولها في الإسلام، حيث يعيد ويزيد الإعلام العربي قصة مواقف هذه الرئيسة وكلماتها والحجاب الذي قررت وضعه على رأسها في زياراتها للضحايا وقانون اقتناء الأسلحة الذي أسرعت في تغييره. عرض وسائل الإعلام العربية لهذه المواقف يأتي دون الالتفات إلى أو الإعلان عن بقية أفكار هذه السيدة القوية ومنطلقاتها اليسارية الاشتراكية التقدمية الليبرالية، والتي من ضمنها مبادئ دعم المثليين وحق الإجهاض للنساء وغيرها، وكيف أن موقفها القوي الصلب تجاه المسلمين في نيوزيلندا وتوجهها الأول من نوعه في الغرب لوصف القاتل بالإرهابي، كلها تأتي من مصدر فكري شامل تنتهجه هذه السيدة والذي ينطوي على بقية الأفكار التحررية التقدمية التي لن يستطيع الإعلام العربي الإعلان عنها، دع عنك مساندتها، في يوم من الأيام.
إلا أن الإعلام العربي لا يلعب فقط لعبة الهروب من الحقائق، لكنه يعود مرة أخرى للعبة الإعلامية القديمة المهترئة لإثبات الانتصار القدري للإسلام والدفع الإلهي له.
سرعان ما بدأ، وتماما حسب المتوقع، انتشار أخبار حول إسلام عدد كبير من النيوزيلنديين بعد الحادث، حيث يقوم البعض بنشر صور لنساء محجبات مشفوعة بهتافات “الله أكبر ولله الحمد” لتحولهن للإسلام. هذا وتدور بعض الفيديوهات “لرفع الآذان في جامعة كانتربيري في نيوزيلندا ووقوف الطلبة حدادا على شهداء الحادث الإرهابي” بحسب التغريدة التي تحمل الفيديو مشفوعة بوصف “ذهول الطلبة وهم يسمعون الآذان” وذلك في بلد لا الإسلام ولا المسلمين ولا الآذان نفسه بغريب عليهم.
هذه المحاولات المستمرة الساذجة لاستخدام موقف إرهابي بشع لإثبات صحة أيديولوجية معينة ولانتصارها ولتأييد الرب لها، ليست فقط محاولات فاشلة ومكشوفة في عالم اليوم، ولكنها كذلك محاولات مهينة للحدث نفسه وللضحايا أنفسهم فعوضا عن نعيهم وإعطاء المجتمع الفرصة للحزن الحقيقي على أرواحهم، ها هم يُستخدمون في حرب دينية قديمة ساذجة الكذب فيها والادعاء على الآخر المختلف من خلال الفيديوهات والأخبار المنتشرة حولها لا ينتج عنها سوى الإمعان في استغلال الضحايا وفي التقليل من عظمة ومأساوية الحدث بحد ذاته.
هذه الحرب الإعلامية القديمة الساذجة تحتاج أن تتوقف حتى نستطيع أن نحزن وحتى نستطيع أن نفهم العقل والضمير الإنسانيين والكيفية التي يمكن لهما بها أن ينحرفا ويفسدا بهذه السرعة والوحشية. نحتاج أن نفهم جنسنا، أن نعالج بدائية أفكارنا وسرعة توحش أرواحنا، حتى نستطيع أن نبقى كجنس بشري ونحيا ونستمر.