تحميل إغلاق

خِيار

خِيار

هناك نظرية ظريفة جداً تقول بأن الكرة الأرضية ما هي سوى معمل مختبري كبير لكائنات فضائية وضعوا عينات حية مختلفة في بقع متباينة منها، وتركوا هذه العينات تتكاثر وتتفاعل بغرض دراسة طبيعتها ككائنات أقل تطوراً. لا أكاد أصدق هذه النظرية، الا أنها تعجبني جداً وأحياناً تتلبس ملبس المنطق الذي لا يمكن دحضه. فاذا ما نظرنا بعين الموضوعية الى طبائعنا وتصرفاتنا وحتى مشاعرنا وتفاعلاتنا في الشرق الأوسط، لوجدنا أنه من الصعوبة بمكان ربطنا ككائنات بهؤلاء الموجودين في أوروبا وشمال أمريكا مثلاً. هناك بلا شك صفات وطبائع مشتركة، الا أن التفاعلات وأساليب التفكير ومنطقة الأمور تختلف أحياناً بدرجة حتى ليبدو أننا من جنس وهم من جنس آخر، لربما نحن عينة وهم عينة أخرى مختلفة.
نحن مخلوقات شديدة الحرارة عندما يتعلق الأمر بالشرف، والذي هو مفهوم متعلق بالرجل وحده وملق على عاتق المرأة وحدها، ولا تسألن عن الكيفية التي تتحمل بها المرأة مفهوماً يخص الرجل، ولكن هذا هو الحال ها هنا، فتثور الثورات وتتزلزل الزلازل اذا ظهر من جسد المرأة ما يسييء لسمعة الرجل (مفهوم ليس له رأس ولا رجلين) وفي مناطق معينة من الشرق المنكوب، يقوم الاعصار فقط اذا ما ذكر اسم زوجة الرجل أو اخته أو امه، فرجال الشرق ليسوا أكلة لحم خنزير يبلد مشاعرهم، حسب النظرية العربية الظريفة، كما هم رجال الغرب. ولكن، الغريب في الأمر، هو أننا ما أن نترك جسد المرأة وندخل الى الجسد السياسي، حتى يبدو لنا وكأن الشعب كله يفطر «بيكن» ويتغدى «بورك» ويتعشى «هام»، تتبلد المشاعر وتتجمد الكرامات، ويوضع الشرف «عن بكرة أبيه» على الرف.
نحن مخلوقات شديدة المرارة عندما يتعلق الأمر بالمستقبل، لا أدري ما نفعل تحديداً، ولكننا دوماً ما نضع أنفسنا بين خيارين لا ثالث لهما، خيارين أسوأ من بعضهما، وكأننا نعشق العذاب، نستمتع بجره في دائرة مغلقة لا تفتح على أمل مطلقاً. المصريون وضعوا أنفسهم بعد 25 كانون الثاني/ يناير بين «اخوان» و «فلول» ثم وضعوا أنفسهم بعد 30 حزيران، يونيو بين «عسكر» و لا أحد تقريباً مع الاحترام لصباحي الذي لربما يكفي موقفه من الطاغية صدام حسين ليفقده كل احترام والذي لربما يكفي اسلوبه القومي القديم ليفقده كل تواصل مع شباب العصر الجديد. أقول ذلك ولازلت أعتقد أن صباحي كان خياراً أفضل من السيسي، فمحاصرة صباحي في حال أخطأ أسهل بمراحل من محاصرة السيسي وجيشه، خصوصاً بعد أن نصب الاعلام الرئيس السيسي الهاً ومنقذاً مخلصاً.
الكويتيون كذلك حاصروا أنفسهم بأنفسهم بين خيارين لا ثالث لهما، اما مع حكومات مفسدة مستبدة متجمدة ومجمدة للبلد، حكومات بلا رؤية ولا خطة ولا نظرة مستقبلية لدولة يتعاملون معها وكأنها مؤقتة، (ولكنها حكومات بأموال كثيرة سائبة «تعلم السرقة» حتى لأصبحت السرقات المليونية، والآن المليارية، أخبار معتادة في الشارع الكويتي)، أو مع معارضة لا تقل عن الحكومات فساداً واستبداداً، معارضة تنادي بدستورية الحكومة وشفافية الاجراءات وبمنطق الشعب يحكم الشعب، ثم تلتف أول ما تلتف على مباديء الحرية والمساواة وهي تغتال حريات الناس دافعة برموز قبلية وطائفية للأمام، بل وواضعة على رأسها قيادات عليها من الشبهات ما يجب كل أحاديثها ولها من التاريخ «المعسول» مع الحكومة ما يشكك في كل دوافعها ونواياها. ولطالما قلنا «طريق ثالث»، لطالما طالبنا بصنع خَيار مختلف، لكننا وبقدرة قادر، ننتهي الى زراعة خِيار نختلف عليه وننقسم حوله، ثم نأكله على العشاء وننام.
ولم يكن حظ بقية الشرق أوسطيون بأفضل، اليكم السوريون وهم بين حكومة قمعية ومعارضة دموية، والبحرينيون وهم بين حكومة مستبدة ومعارضة فقدت بوصلتها أخيراً وتاهت في طرق التطرف، والعراقيون وهم بين سيارة مفخخة سنية و قنبلة موقوتة شيعية، والآن هم بين الكثير من الأشياء التي لم أعد حتى أعرف لها رأس من قدمين، واللبنانيون وهم بين حزب الله الشيعي الذي أصبح دولة قمعية داخل دولة قمعية وحكومة مسيحية/سنية/شيعية ليست قادرة حتى على أن تتكون من أساسه، والفلسطينيون وهم بين فتح وحماس، وتستمر القائمة صعوداً الى شعوب أفضل الأسوأ، التونسيون، الذين استطاعوا أن يخلقوا اختياراً متوازناً بعض الشيء، ونزولاً الى شعوب أسوأ الأسوأ، والتي ليس باستطاعتها أن تخلق خيارات من أساسه أمام واقع منفرد قمعي مرعب ليس لها الا قبوله.
لم نستسلم نحن لأكل الخِيار بدلاً من صنع الخَيار؟ لا أعرف تحديداً سبباً لصبرنا وسكوتنا واعتيادنا حتى على أكثر الأمور فحشاً سوى أننا لربما كنا من عينة فضائية مضروبة لا ينفع معها طب. عموماً أن يكون الموضوع جينياً خارجاً عن ارادتنا لهو أفضل بكثير من أن يكون ثقافياً من صنعنا واختيارنا، ومن هنا يمكننا أن نعلق الخيبة على شماعة جديدة بعد ان انكسرت تلك التي لاسرائيل، وتكاد تتبعها تلك التي لايران، شماعتنا الجديدة قوية وستدوم وقتاً طويلاً، نحن ضحايا مؤامرة مخلوقات فضائية.

اترك تعليقاً