«أتمنى على بنات جنسي أن يعذرنني إذا ما عاملتهن على أنهن مخلوقات عقلانية عوضاً عن تملق محاسنهن الخلابة، والنظر إليهن على أنهن في حالة طفولة دائمة، غير قادرات على الوقوف بمفردهن. بكل صدق، أود أن أوضح موقع الكرامة الحقيقية والسعادة الإنسانية، أود أن أقنع النساء بأن يسعين للحصول على القوة، لكلا العقل والجسد، وأقنعهن بأن العبارات الناعمة: تأثر القلب، رقة المشاعر، ورفعة الذوق، هي تقريباً مترادفة وصفات ضعف، وأن هذه الكائنات التي هي فقط موضع للشفقة، وهذا النوع من الحب الذي هو ملازم للشفقة، سرعان ما ستصبح موضع ازدراء». ماري وولستونكرافت-الترجمة لي.
ماري وولستونكرافت هي إحدى أهم النسويات الغربيات اللواتي ظهرن على الساحة بقوة إبان القرن الثامن عشر. ولقد كانت وولستونكرافت صوتاً قوياً مستغرباً، خارجاً عن مألوف الخطاب النسوي المقبول في ذلك الوقت، إن كان الخطاب النسوي مقبولاً أصلاً. ورغم جرأتها وصلابة آرائها بل واتخاذها مواقف قوية ناقدة تجاه مؤسسات اعتبرتها هي مؤسسات ذكورية شوفينية بحتة، مثل مؤسسة الزواج على سبيل المثال، إلا أنها وصنواتها من نسويات قرون ما بعد النهضة، لم يكن لديهن من اختيار سوى تخفيف اللغة أحياناً وتملق الرأي الذكوري أحايين أخرى، ومخاطبة مصالح الرجل والمجتمع حين المجادلة من أجل حقوق النساء وأمنهن وحرياتهن أحايين أخرى وأخرى. كريستين دو بيزان ذَكَّرت الرجال في كتاباتها مثلاً أن تعليم النساء سيوفر لهن زوجات وأمهات أفضل، وكذا فعلت الكثير من النسويات حين أشرن إلى أن حصول المرأة على حقوقها، وبالأخص الحق في التعليم، سيصنع منهن كائنات أكثر أخلاقية، وبالتالي أكثر رقياً وأكثر فائدة للمجتمع ورجاله.
كان خطاب وولستونكرافت أكثر قوة من سابقاتها، إلا أنه كان لها آراء حول فروقات بين النساء والرجال ما عادت مقبولة في الفكر المعاصر، فهناك أنواع معينة مثلاً من الرياضة أو الأنشطة البدنية التي ارتأت وولستنكرافت أنها لربما تكون أنشطة ذكورية قد لا تتناسب وأنوثة المرأة، وهو الخطاب الذي بات قديماً لا مساحة فكرية له إلا في عالمنا الشرق أوسطي الخاوية معظم مساحاته الفكرية، عدا في أطرافها البعيدة التي تتجمد فيها الأفكار التراثية الغابرة كالغبار اللزج في الزوايا الحادة للحوائط القديمة. ورغم أن الخطاب النسوي الثوري لوولستونكرافت يعتبر قديماً في العالم الغربي المعاصر الذي تنتمي هي لحضارته القديمة، إلا أنه لا يزال ذا صلة قوية بعالمنا الذي خلفه قطار الفكر والحقوق. لا يزال نداؤها لبنات جنسها مهماً، لا يزال نصحها لهن مطلوباً، فالزمن خلف عدداً كبيراً من المحبوسات في ثقافات غابرة في الماضي خلفه، حيث لا تزال الكثيرات من بنات جنسنا يعتقدن بأن هناك قيمة حقيقية للضعف والتهافت العاطفي، غير واعيات لتأثير هذا السلوك على تقييمهن الإنساني العام.
من بنات جنسنا من تضطرهن ظروفهن لاعتماد الطرق الدائرية والأساليب الملتوية لتحقيق بعض من أهدافهن. في الأغلب، تكون القوى الذكورية الشوفينية في مجتمعاتنا على درجة من القوة والتحكم حتى لتصل لحد تهديد الراحة والأمن والحياة بحد ذاتها، وذلك ما يدفع ببعض النساء لاستخدام المحاسن الشكلية واستغلال «الضعف الأنوثي» لتحقيق الأهداف أو حتى لضمان شيء من الأمن في حياتهن. علمتنا الحياة كلنا، على اختلاف محيطاتنا، ألا نكون مباشرات، ألا نذهب لأهدافنا في خط مستقيم، وألا نخاطب أفكارنا بشكل واضح وقوي، ومن تفعل تصبح «نسرة» كما باللفظة الخليجية، نسبة لطائر النسر القوي العنيف، فاقدة لأنوثتها ورقتها.
ومن بنات جنسنا من لا يزلن يعتقدن أن المبالغة في ترقق السلوك وتنعيم الألفاظ وتغنج التصرف هي كلها مما يزيد من «قوة» أنوثتهن، في حين أن وولستونكرافت، ومنذ ما يزيد عن الأربعمئة سنة مضت، حذرت من أن هذه الصفات هي مرادفات «الضعف» وأن قوة العقل والجسد يفترض أن تكون هي الهدف، ذلك أن الاستمرار في استدرار الشفقة، سواء بالتغنج أو إظهار الضعف، لن يؤدي سوى لاستدرار «الازدراء». هذا الازدراء هو الذي لا يزال واضحاً كأسلوب تعامل مع نساء عالمنا العربي، وهو ازدراء خلقته الرؤية المجتمعية للمرأة، والعادات والتقاليد الذكورية الشوفينية، والنظرة العرقية الجاهلة (من حيث إن الرجال هم ناقلو السلالة لا النساء) وكذلك السلوك النسائي الاستضعافي المتمسكن. نعم، هو سلوك تبنته النساء كوسيلة للبقاء على قيد الحياة، إلا أنه استمر مطولاً حتى التصق بجنسنا وساهم في خلق الرؤية المزدرية لفكرنا وسلوكنا.
حان الوقت لأن نسعى للقوة الجسدية والعقلية، وأن نمشي في خطوط مستقيمة لا ملتوية، نفتخر ونفاخر بالقوة والوضوح ولا نخجل من المباشرة، أن نضع رغباتنا ومتطلباتنا ومعاناتنا في كلمات واضحة مباشرة، لا تعابير متملقة لعالم الرجال ومختفية خلف مديحهم. لن تعدل حيواتنا وتقل معاناتنا وتمتد أيادي العدالة إلى أقدارنا إلا حين نعبر بمباشرة ووضوح، حين نضع أسماء لقضايانا وحين نمشي دروب حيواتنا في خطوط واضحة. رقة المشاعر والقلب والسلوك جميلة حين تكون طبيعية وفي موقعها، لا حين تكون مفتعلة كأسلوب معالجة لمشاكل إنسانية عظيمة. علينا بقوة أجسادنا وأفكارنا، لا عاصم لنا في هذه الدنيا الذكورية سوى قوانا. لنصبح «نسرات» نفرد أجنحتنا ونطير.