حقيقة الأمر أنني أفكر عشرات المرات قبل أن أقول الفكرة، أدورها في عقلي، أصوغها، أشطبها ثم أعيد صياغتها، لأنتهي إلى جملة بعيدة البناء، تلميحية الفحوى، جملة تشير عن بعد لما هو في لب القلب. لا شيء أصعب من كل هذه المواربة، من كل هذا التخفي، ولا شيء أكثر خطورة منهما. بعد سنوات من التدريب على هذا النوع من التواصل المستتر، يتوه الإنسان عن نفسه، عن أفكاره الأصلية، يفقد القدرة على التواصل المباشر الواضح، ويتبرمج ليدور دوماً في دوائر مفرغة. مع الوقت، يصبح الإنسان رقيباً متشدداً على نفسه وأفكاره، لتضيع الكثير من الأفكار التي لربما تكون مهمة أو مؤثرة في رحاب التتويه والتمويه والتنكر، وليفقد هذا الإنسان مع الوقت القدرة على الرؤية الواضحة الخالية من كل «الفلاتر» التي يفرضها الخوف عليه، هذا الخوف الذي يخنق الإنسان ويسلبه أعز ما يملك: القدرة على التفكير والحق في التعبير.
في عالمنا العربي تتجلى هذه الفلترة في مختلف مناحي الحياة، فنحن نفلتر تصرفاتنا الاجتماعية، نفلتر خطابنا اليومي، نفلتر آراءنا السياسية وبلا شك نفلتر ألف مرة رؤانا وأسئلتنا الدينية. قليل منا من يحيا حياة حقيقية نسبياً، حياة خارجية متوائمة مع المُعْتَمِلات الداخلية، مع ما يدور في الروح ويفترش العقل. معظمنا يحيا إما محاولاً إرضاء من يحب، تفادي من يخاف، و/أو تجنب التهديد القانوني والوعيد الأيديولوجي. ولأننا في المجمل مجتمع يحيا ما لا يؤمن ويؤمن بما لا يحيا، أصبح النفاق هو سيد الموقف والوجه الأوضح لتعاملاتنا اليومية والعملية.
قبل أيام أخبرتني ابنتي أنها ستخرج في مظاهرة مع زملاء الجامعة في المدينة الغربية التي تدرس فيها، حيث سيسيرون تظاهراً ضد التمدد العمراني الذي يهدد البساط الأخضر للمدينة. ضحكنا أنا ووالدها، وعلّقنا تعليقين مسكينين يدلان على شرقيتنا العميقة وسوء نتاج برمجتنا الرقابية الطويلة: مالك أنت وشؤون هذه المدينة؟ كوني حريصة ألا تثيري أي غضبة تعرضك وبعثتك لأي مشاكل. في مجتمعاتنا التي تغرِّبنا نحن المنتمين إليها، دع عنك الأجنبي عنها، يصعب فهم فكرة الانتماء السريع هذه والشعور بأن المعني جزء من جماعة مجتمعية للتو انضم إليها. لذلك، ورغم أنني وزوجي مررنا بتجربة الدراسة بالخارج منذ سنوات عدة، إلا أننا تفاجأنا بشعور ابنتنا العارم بالانتماء لجماعة جامعتها ومدينتها، ولشعورها بالأمان التام للخروج اعتصاماً من أجلهما. في غضون ما يفوق السنة بقليل، تطور لدى ابنتي شعور قوي بأنها جزء من الجامعة والمدينة، أن لها حقاً فيهما، ولهما حق عليها، وأنها آمنة على نفسها ودراستها وسلامتها خروجاً للاعتصام من أجل قضية مدينتها التي أصبحت قضيتها. لنا أن نتخيل الوضع معكوساً في دولنا العربية، «لغريب» يعتصم من أجل موضوع داخلي في بلد يقيم فيه ولا يحمل جنسيته، لا بد أن «المواطنين النشامى المخلصين» الذين يحيون بالشعار البائد «يا غريب كن أديب» سيأكلونه بأسنانهم.
تخبرني ابنتي عن كل نقاشاتها الأيديولوجية والاقتصادية، بحكم تخصصها، مع أساتذتها وزملائها في قاعات الدراسة، عن غضباتها وانطلاقاتها الحوارية، فتذكرني بنفسي قبل أن يأخذني الزمن وتلجمني الرقابة، فأستشعرها تقف في الهواء الطلق فيما أقف أنا خلف ألف باب، وأفرح لها. لقد حررتها مدينتها وأطلقت العنان لأفكارها، ودربتها على أن تكون جزءاً فاعلاً له رأي يتبعه فعل مؤثر في محيطها، فهذه مدن تستثمر في الإنسان، وتفهم أن هذا الإنسان هو أغلى المدخرات، وأنه سيكون ذا منفعة فعلية، لا رمزية، لهذه المدينة ولتلك الجامعة الذي سيدين بالولاء عمره كله تجاههما لما أسبغا عليه من حرية، ولما فتحا له من أبواب. لقد ضمنت المدينة «مواطنين مخلصين» لها في هؤلاء الطلبة القادمين من كل بقاع العالم، وكأنها تنشر جنودها الناعمين في كل الدول المحيطة، يدافعون عنها، يخلصون لها، يساندونها مالياً، ويدينون لها أعمارهم بأكملها بالولاء.
ليس في هذا الشرق الأوسط المسكين، حيث الجار الشريك في اللغة والعادات والدين، دع عنك البعيد المختلف، يبقى غريباً إذا لم يكن يحمل الجنسية، ويبقى مهدداً إذا «تدخل في الشؤون الداخلية»، ولم لا والمواطنين أنفسهم مهددون إن خرجوا عن الصف؟ ليس في هذا الشرق الأوسط المسكين، حيث الرأي له ألف تبعة، لا تتمثل فقط في إقصاء اجتماعي أو غضبة عامة، بل تذهب لحد التهديد القانوني ذي التبعات المهيبة، وكيف ننسى د. نصر حامد أبو زيد مبعداً عن مصر، مفرقاً عن زوجته بحكم تكفيره؟ كيف ننسى اغتيال فرج فودة، وفصل المفكر المغربي سعيد ناشيد من عمله، وحبس الدكتور الكويتي أحمد البغدادي؟ كيف ننسى نوال السعداوي، لجين الهذلول، وتوكل كرمان؟
ويبقى السؤال رغم معاناة كل مفكر وناشط وصاحب رأي في عالمنا العربي المسلم، حقيقة الأمر، من الخائف أكثر، صاحب الرأي أم صاحب السلطة السياسية أو الدينية؟ من المرتعب حقاً، سيد القمني كاتباً لآرائه أم «الكليرجي الديني» وهو يقرأها ويعجز عن الرد عليها وتفنيدها؟ من هذا الذي يستشعر التهديد المستمر، امرأة أو رجل يكتبان تغريدة على «تويتر»، أم شيخ دين يبني إمبراطوريته ويجني أمواله بالتهديد والوعيد لهذين المنفردين اللذين لا يمتلكان سوى آراء وكلمات؟