من أمِن العقوبة ساء الأدب؟

هل حقاً من أمن العقوبة ساء الأدب؟ هل فعلاً كل المطلوب هو تغليظ العقوبات لكي تُقوَّم الأخلاق وتنتهي الانتهاكات؟ تستخدم هذه الحجة في العالم الشرق أوسطي وفي بقية أجزاء العالم التي تعتنق عقوبة الإعدام في قوانينها تفنيداً وتبريراً لهذه العقوبة العنيفة التي تتنافى وأبسط المبادئ الحقوقية الحديثة وكذلك المفاهيم النفسية، العقلانية والمنطقية.

يقول موقع آمنستي أن الدلائل حول العالم تشير إلى أن تطبيق عقوبة الإعدام لم يرتبط مطلقاً بانخفاض الجريمة، مستشهداً بدراسات من الولايات المتحدة وكندا، حيث تقول هذه الدراسات أنه على سبيل المثال في 2004 كانت نسبة جرائم القتل في الولايات الأمريكية التي تعتمد عقوبة الإعدام تصل إلى 5.71 لكل 100 ألف من السكان مقارنة بنسبة 4.02 لكل 100 ألف من سكان الولايات التي لا تطبق عقوبة الإعدام. في 2003 انخفضت نسبة جرائم القتل في كندا، وذلك بعد سبعة وعشرين سنة من إنهاء عقوبة الإعدام، بنسبة 44% منذ 1975 حين كانت عقوبة الإعدام مطبقة. يؤكد الموقع أن عقوبة الإعدام ليست فقط عديمة التأثير الإيجابي، إنما هي تٌفَعِّل التأثير السلبي بتريسخ العنف واستكمال دائرته.

كذلك، يؤكد الموقع، لا يوجد دليل أبداً على أن عقوبة الإعدام قد ساهمت في التخفيف من نسبة الاتجار بالمخدرات في الدول التي تطبق هذه العقوبة، كما يشير الموقع إلى “أسطورية” فكرة أن الأفراد سيكونون أقل قابلية لارتكاب الجرائم إذا ما علموا بتقنين الإعدام، حيث أن “هذه الحجة تسبِّق أن المجرمون يدرسون و يتوقعون عواقب الإمساك بهم، ويقررون أن الحبس طويل الأمد مقبول بالنسبة لهم، فيم عقوبة الإعدام ليست مقبولة.” يؤكد الموقع أن العديد من الجرائم تحدث في لحظتها مما لا يترك فعلاً المجال للمجرم للتفكير في عواقبها. هذا وقد تشجع عقوبة الإعدام على المزيد من الجرائم، ذلك أنه إذا ما كان المجرم يدرك أنه محكوم بالإعدام في جريمة ما، فسيسهل ذلك عليه القيام بجرائم أكثر حيث لا خطورة في المزيد من العقوبات. على سبيل المثال “إذا ما وقعت سرقة تحت تهديد السلاح وهي جريمة يعاقب عليها بالإعدام، فإن السارق لن يخسر شيئاً بارتكابه جريمة قتل في محاولته للهرب.” يستمر الموقع في دحض بقية الحجج مثل حجة أن عقوبة الإعدام تقلل من فرص وقوع الجرائم الإرهابية، وهي الحجة الكوميدية فعلياً، ذلك أن مرتكبي هذه الأفعال مرتفعة الخطورة ليسوا فعلياً مهتمين بسلامتهم الشخصية. كما يشير الموقع إلى أن موافقة العامة على القانون لا يبرره أو يشرعنه، ذلك أن القوانين التي تغتال حقوق الإنسان، مثل قوانين العبودية والفصل العنصري، والتي كانت جميعاً مقبولة ومتفق عليها، لا يمكن بحال القبول بها اليوم ولو اتفقت عليها أمم بأكملها.

إلا أن هناك صور أخرى مصغرة لدحض حجة العقوبة التي تحد من إساءة الأدب. إذا لم يكن هناك واعز أخلاقي داخلي حقيقي وقناعة فعلية بالخطأ، فإن ما سيحدث مع وجود عقوبات مغلظة ليس هو تنامي الشعور بالخوف منها وبالتالي التوقف عن ارتكاب الجرائم والأخطاء، وإنما سيتنامى الشعور بالخوف منها دافعاً لإيجاد المزيد من الوسائل والسبل للتحايل عليها لارتكاب الفعل المعني. أتصور أن المشكلة الأخلاقية التعليمية الكبرى في العالم العربي هي مشكلة الغش، وهي مشكلة غريبة عجيبة، تتناقض بشكل صارخ مع روح التدين والمحافظة التي تتغلف بها الأمم العربية المسلمة. وبنظرة سريعة على المجتمعات التي حاولت تغليظ العقوبات تجاه هذه الممارسة، نجد أن هذه العقوبات لم تغير شيئا ًمن نسبة الممارسة أو التشبث بها، إن لم تكن قد حسنتها في الواقع ورفعت نسبة تكنلوجيتها وذكائها إن صح التعبير. كيف يمكن إنهاء ظاهرة الغش في مجتمعات يساند فيها الأهل الأبناء في هذه العملية الفاحشة بداية من شراء أجهزة التصنت لهم ووصولاً إلى الاعتداء على المدرسين الذين يقاومون هذه الظاهرة الفاسدة؟

في الكويت، تكتظ المحاكم بقضايا الرأي المتمخضة عن تويتر ونسبة الحريات التي قدمتها هذه الوسيلة الإلكترونية للناس بلا سابق إنذار أو تمرين. لربما تصل نسبة قضايا الرأي ما يقرب من 80% من القضايا التي تنظر فيها النيابة والمحاكم عموماً، وقد صدرت أحكام مغلظة وصلت للحبس عشرات السنوات مما دفع بعدد من المحكومين للهجرة الدائمة خارج الكويت. فهل يا ترى غيرت هذه العقوبات المغلظة من سوء التواصل في شيئ؟ هل نوعز الانحدار التعبيري، وهو في كل الأحوال يدخل في حيز حرية الرأي إلى درجة كبيرة، إلى أي نقص تشريعي في حين أن هناك ما يزيد على السبعة أجسام قانونية ضخمة تتعامل مع المرئي والمسموع والمطبوع في الكويت؟ أم أن المشكلة مختلفة؟

وسائل التواصل، لربما حول العالم أجمع، أنتجت نوع جديد من الأبطال: نوعية البطل البذيئ، الذي كلما ازداد شتماً وتقبيحاً، كلما ارتفعت نسبة بطولته وكلما ازدادت شعبيته التي تنعكس في عدد متابعيه. أي عقوبة مغلظة يمكنها أن تغير هذه الصورة المريضة؟ هذه صورة لا تعكس نقصاً في التشريع ولكن ضعفاً في الأخلاق، وهذا ضعف لا تقومه قوانين الدنيا بأكملها. هذا ضعف، في حال تحوله لظاهرة، يحتاج لإعادة صياغة لمفاهيم الديموقراطية وحرية التعبير وإعادة تأهيل للنفوس التي وقعت مطولاً تحت تأثير مفهوم البطولة الزائفة. وفي العموم فإن أي محاولة إصلاح لن تنهي الظاهرة بحال، ولكنها بالتأكيد ستنخفض بها من كونها ظاهرة سائدة إلى ممارسة متفرقة تدين أصحابها وتخزيهم دون حاجة لقانون يعاقب ذلك أو يفرض عكسه. إن وجود “الصوت الهابط” دائماً مهم، فهو لا يبرز “الصوت الثمين” فقط ولكنه وحده، هذا الصوت الهابط، القادر على قول ما لا تستطيعه الأصوات الأخرى وأن يضع الساسة وأصحاب السلطة والنفوذ في مكانهم ويبقيهم على رؤوس أصابعهم. المهم ألا يصبح الصوت الهابط صوت سائد.

من أمن العقوبة وفي قلبه قناعة لا يمكن أن يسيئ الأدب ومن يريد أن يسيئ لن ترده عقوبات الدنيا كلها. الإساءة ليست محجمة بالعقوبة ولكن بالخُلُق المستقر في الأعماق، بالقناعات الإنسانية وبالشعور بالمسؤولية. بعض أمثالنا وحكمنا عفى عليها الزمن، وعلينا أن نتعامل اليوم مع المفاهيم المتجددة للسيكولوجية البشرية وللقواعد الإنسانية حتى نحقق معادلة المجتمع المستقر.