كتب د. فهد راشد المطيري، أحد أبرز المفكرين على الساحة الكويتية، تغريدة يقول فيها: «بئس الرجل الذي يتزوّج فتقاسمه زوجته الحُلوة والمُرّة، حتى إذا كبُرا معا، قال لها: لقد كبُرتِ وقرّرتُ الزواج بأخرى أصغر سنّا! لا قانون أخلاقيا يشفع هذا القدر من الأنانية، ولا شيء يغسل هذا الكمّ من الخيانة! أي رجولة هذه التي بدايتها الأنانية وخاتمتها الخيانة!». حضرتني صورة جدتي -رحمها الله- على إثر قراءة هذه التغريدة، تذكرتها ببياضها الناصع، ورائحتها المبخرة المرشوشة بدهن العود، وأصابعها الملفوفة بخواتم الذهب، تذكرت آلامها وأحزانها وهي تحكي لي كيف أن جدي «حرق» قلبها المرة تلو الأخرى بغيابه الكثير وتعدد زواجاته.
ولأنني كما كل فرد في عائلتنا الكبيرة نعشق جدي رحمه الله، هذا الرجل المهيب الفارع الطول الشامخ الشخصية، رجل سابق عصره بعقلية ليبرالية تضاهي أشدها تفتحا اليوم، حيث كانت الحفيدات يلجأن إليه كلما وقعت إحداهن في الحب ليزوجها من محبوبها برغم أنف أهلها المعترضين، أقول بسبب هذا الحب المتأصل في نفوسنا جميعا، وفي نفسي تحديدا، كنت أجادل جدتي: «لربما لم تفهمي جدي في يوم يا جدتي؟ لربما أراد حياة غير حياتك؟». ترى كم عذبتها تعليقاتي وتعليقات بقية الأحفاد الكثيرين الغائرين في حب جدنا الخلاب حد العمى المطلق تجاه أوجاع جدتنا ومعاناتها؟ كان جدي رجلا مثقفا متعلما ليبرالي النزعة، تعلم على يد إمام مسجد وعمل في بحر الكويت، ثم أصبح تاجرا واسع الثراء، ثم خسر أمواله بتبديده الذي كان بلا حساب، وكانت جدتي سيدة غير متعلمة، تتكلم العربية المختلطة بالفارسية، لا تعرف من الحياة أكثر من أبنائها وأحفادها وبيتها ومطبخها وقدورها التي لطالما نضحت طعاما كأنه هابط من الجنة، وسوق الذهب الذي كانت تعشق التجول فيه والشراء لنا جميعا منه، كيف كان لجدي وجدتي أن يجتمعا لولا سلطة الزواج التقليدي العمياني؟ كيف كان لهما أن يتفقا لولا إصرار العادات وتعنت التقاليد التي فرضتهما على بعضهما بدون أدنى فرصة للتراجع أو التغيير؟ عشقت جدتي جدي إلى حد كبير، وأحبها هو بدرجة معقولة. المشاعر كانت موجودة بلا شك، أما الأفكار والاهتمامات فما التقيا عندها في يوم قط.
كيف يمكن بلع أي تبرير مهما بلغت «بلاغته» لهذه الصورة الداروينية لعلاقة يأكل فيها طرف الطرف الآخر بهذه القسوة والوحشية؟
لم تكن قصة جدتي وجدي قصة مميزة، بل قصة أغلب الأزواج من جيلهم، يفرض الزوجان على بعض، يعيشان حياة تقليدية، ينجبان الأبناء، يصنعان أسرة كبيرة لا مفر من الالتزام بها، خصوصا بالنسبة للمرأة التي لا يمكن لها مجرد التفكير في التخلي عن زوجها، دع عنك الفرار من أسرتها بأكملها. الفرار كان فقط حقا للرجل، ضمنته له الثقافة الذكورية والعادات الشوفينية والقراءات الدينية التي تميل حد الانكفاء تجاه هذا الرجل ورغباته. يفر الرجل من حياته حتى لو كان سعيدا فيها، ومن زوجته حتى لو كان محبا لها، إلى مساحة أخرى من الحياة يسرح فيها ويمرح، يكسر فيها روتين حياته، يجدد شبابه ويكفي رغباته، أما هي، الزوجة، فلا مفر لها، سعيدة كانت أم تعيسة، محبة كانت أم كارهة، لن يرحمها أحد لو فعلت، حتى بنات جنسها الأعلم بمعاناتها وحرمانها، لا تفر المرأة سوى إلى مصدر ألمها، إلى زوجها وبيتها وأولادها، لتنقضي حياتها في خدمتهم والتعذب بغربتها بينهم. لم تكن تلك حالة كل امرأة بالطبع، ولكنها كانت حالة أغلبية كبيرة بينهن، يعشن حيوات لم يخترنها، ويخدمن في بيوت لم يرغبن في صنعها، ويرقدن على أسرة لا تعاملهن كأكثر من ماكينة تفريخ للصغار.
وبعد كل ذلك، تأتي اللحظة الحاسمة التي عاشتها أغلبيتهن، لحظة دخول الزوجة الجديدة، طازجة الشباب، مائعة الدلال، لتذكرها بهذا القدر الجائر الذي أتى دائرا عليها كما دار على من سبقنها. لقد قالها كورال النساء في مسرحية «ميديا» الإغريقية لكاتبها التراجيدي العظيم يوروبيدس، للساحرة «ميديا»، حين أراد زوجها «جيسن» أن يتزوج بغيرها، بعد أن ضحت هي من أجل حبه، بل وقتلت أهلها وهاجرت من أرضها. قالت لها النساء اللواتي تجمعت أصواتهن حولها لمواساتها في مصابها إن هذا هو قدر النساء الذي لا بد أن تقبله كلهن: الرجال يتزوجون حين تكبر نساؤهم، يبحثون عن الجمال الشاب بعد أن يشيب جمال رفيقاتهم، هو القدر الذي لا مفر منه، الذي لا بد لنساء الدنيا أن يقبلن به.
د. فهد يقول: «لا قانون أخلاقيا يشفع هذا القدر من الأنانية، ولا شيء يغسل هذا الكمّ من الخيانة!»، إلا قانون الشرق الذكوري «الأخلاقي» يا دكتور، هذا القانون الذي يضع عبء تحمل «وزر» الشرف كله على المرأة، ويسلم مفاتيح الأنانية كلها للرجل، ليسمح له باسم العادات والتقاليد والقراءات الدينية أن يثني ويثلث ويربع، هذا غير العرفي والمسيار والمسفار والمتعة وما ملكت أيمانهم لو تسنى ملك اليمين، وإلا مياه الشرق الشوفينية يا دكتور، هذه تغسل الخيانة لتخرجها ناصعة البياض، لتتحول من خيانة إلى خدمة يقدمها الرجل للمجتمع بتقليل عدد العازبات و«العوانس»، خدمة تضفي عليه مزيدا من معاني الرجولة والفحولة.
التعدد حق ديني، التعدد تبعة لبيولوجية الرجل، التعدد خدمة، التعدد رجولة، التعدد مبرر ومتوقع ومحمود للرجل ذي الرغبات المقتدر، أما المرأة، اقتدرت، رغبت، عانت، كرهت أو أكرهت، فليس لها أن تفكر مجرد التفكير في رجل آخر، أو حتى في حياة أخرى. على هذه المرأة أن تقبل، بعد كثير أو قليل من السنوات، بعد العشرة والأبناء وأحيانا الأحفاد، بمساندة من العادات والتقاليد والقراءات الدينية، بمشاركة واحدة أو العديدات في رجل، هي أصلا لربما مجبرة على معاشرته، وأحيانا في بيت ومقدرات مالية، ليس لأي سبب سوى أنه رجل وأنها امرأة. كيف يمكن بلع أي تبرير مهما بلغت «بلاغته» لهذه الصورة الداروينية لعلاقة يأكل فيها طرف الطرف الآخر بهذه القسوة والوحشية؟