وكأن العمل الحقوقي في أقل درجات إخلاصه يتطلب أعلى درجات التجرد والمثالية، فأي خطوة خارج دائرة التجرد والمثالية تخرجك مباشرة، مجرجرا ذيل الهزيمة والعار، خارج دائرة العمل الحقوقي.
والحقوقيون، كما تصفهم دكتورة القانون الكويتية مشاعل الهاجري في مدونتها الرائعة المعنونة “التباس” وتحت موضوع بعنوان “الجدل القانوني وشرف السلاح”، هم “افتراضا (وثقة) من مجتمعهم… لن يتحرّوا إلا الحق، ولا شيء عدا الحق. لهذا فقط سُموا ـ تشريفا ـ باسم نِسبةٍ إلى “الحق”، فهم “حقوقيون”.
المعضلة العميقة هنا هي أن الحق نسبي في أغلب الأحيان، وإن اختلف على هذا الرأي الفلاسفة على مر الأزمان، وهو يبدو بوجوه عدة من زوايا الحياة المختلفة، فإن كنت تقف في شرق الكرة الأرضية فالحق لربما سيبدو ساخنا، غاضبا وحزينا وإن كنت تقف في غربها لربما سيبدو مرتفعا قويا فارضا نفسه؛ أحيانا يبدو الحق صديقا للفقر والمعاناة وأحايين أخرى يبدو متوازيا والمخاطر الجمة وأحايين ثالثة يبدو عدوا للخير والعدل والسلام. الحق مائع لزج، كأنه صابونة كثيفة الرغوة، لا أنت قادر أن ترى جوفها ولا أن تحكم قبضتك عليها.
هنا تحديدا معضلة الحقوقي، فهو يجب أن يستشعر قوة إيمان كل فرد بحقوقه، وأن يقف موقفا محايدا من هذه الحقوق في ذات الوقت، فالحقوقي يجب أن يؤمن بكل شيء وبلا شيء في آن، أو بالأحرى أن يظهر عمق مساندته وكذلك عمق حياده تجاه المواضيع الإنسانية العميقة الحساسة في ذات اللحظة، وتلك مهمة مستحيلة استحالة وجود حقوقي مثالي.
رغم ذلك، علينا كلنا أن نحاول وأن نستمر في المحاولة للوصول إلى درجة مقبولة من الحياد والتعاطف، من فصل القيم والمعتقدات ودمج المشاعر والأحاسيس، من أن نكون على درجة عالية من الموضوعية دون فقدان الاندماج الإنساني والتداخل العاطفي. وفي هذا تقول الدكتورة الهاجري:
“السلاح” الحقوقي ـ مثل أي سلاحٍ نبيل ـ لا يُسحب من غمده إلا بعد فك العديد من الأحزمة القيميّة (التثبّت من الحقيقة، التزام المنطق، اللغة النظيفة، الاستعداد للاعتراف بالخطأ، عدم التحزب، القبول بالمسلمات، افتراض حسن النية، تجنب التضليل، الامتناع عن الخوض بالنوايا، احترام الآخر، دعم الاجتهاد، و عدا ذلك كثير). وفي هذا كله، على الحقوقي دائما أن يضمن مسافة كافية لخصمه يحفظ فيها كرامته، لا تفضلا، وإنما كضمانة أخرى من قبل الحقوقي نحو الوصول إلى الحقيقة، فتمكين الخصم من حفظ ماء وجهه سوف يعني ضمان خطٍ سلسٍ لعودته إلى جادة الصواب، مما يعني مساهمة نبيلة أخيرة من الحقوقي نحو عدم عرقلة أية مساعٍ تقود إلى الحقيقة المرجوّة، بل وفتح كافة المسالك الموصلة إليها”.
تأهيل للنفس للوصول إلى قمة المتناقضات التي يتطلبها العمل الحقوقي، أي الموضوعية التامة والمشاعرية الخالصة، أقول انطلاقا من تجربتي، إن استحققت فعلا شرف لقب “حقوقية”، إن تدريب العقل على التثبت من الحقيقة والتزام المنطق واللغة النظيفة والاعتراف بالخطأ وعدم التحزب واحترام الآخر وغيرها من التوصيات التي جاءت على لسان الدكتورة الهاجري ممكن، وإن كان على درجة بالغة من الصعوبة، فهو تدريب يحتاج للذهاب إلى “نادي العقل الصحي” بشكل يومي، لرفع أثقال البحث العميق وتمرين عضلات المنطق واللغة النظيفة واحترام الآخر بشكل مستمر.
معضلتي اليوم هي في “تمكين الخصم من حفظ ماء الوجه” خصوصا وأن الكثير من خصوم هذا الزمن ما عاد لهم ماء وجه يحفظ. وعلى أنني ألتزم الأدب والهدوء الخارجي، أصبح التحكم في الداخل الثائر عصي على النفس إبان وبعد أي حوار عنصري، حيث باتت نفسي تفور داخليا بغضب أكاد أستشعره حروقة في معدتي أو مادة لاسعة في عيني، لا أدري أهو غضب فار نتاج سنوات من محاولة كبحه وتحجيمه أم انطلق نتاج ارتفاع نسبة العنصريات في منطقتنا وهبوط لغة الحوار حول مواضيعها؟
قبل أيام دار حوار قصير بيني وبين إحدى المعارف، أخبرتني من خلاله ما معناه أن التفاوت بين البشر حقيقة لا بد من القبول بها، أن هناك بشر حظهم أن يكونوا فوق وآخرون حظهم أن يكونوا تحت، وأن الحظ هذا عامل لا بد من الاعتراف به ولربما أيضا احترام ضرباته مهما بدت عشوائية وغير عادلة.
دارت بعض الجمل الشائعة من نوع “نعم على رأسنا ريشة” و”هؤلاء يموتون على الدينار” وغيرها بما ذكرني بكلام الجهل والتغييب الذي يدور حول عموم المواضيع الإنسانية في بلدان النفط الغنية حيث أعمت الراحة المادية البصيرة الجمعية لشعوبها، مع الاعتذار عن تعميم غير مقصود هنا وإنما المقصد هو انتشار وافر أعطى الكارثة الأخلاقية هذه صفة الظاهرة المنتشرة.
كان صعب عليّ أن أستمر في الحوار، وكان أصعب أن أقدم محاولة حفظ ماء وجه وتوفير خط عودة. شعرت ببقايا أكل في معدتي تتسلق مريئي ببطء، حروقة هاجمت عيناي، وغضب ماج في أمعائي، لا أعرف كيف يصل الغضب إلى الأمعاء؟ التزمت الصمت أمام هذه الرؤية الداروينية البشعة التي تحول الحياة إلى غابة، حيث عدد القابلين المقتنعين بها في ارتفاع مستمر، ماذا سيحدث لو أصبحت هذه الفكرة هي سيدة الموقف، هي الكود الأخلاقي الجديد؟
صمت حتى لا أقول شيئا قبيحا، حتى لا أتلفظ بشيء قاس، حتى لا أقطع آخر طرق الرجوع كما تقول دكتورة الهاجري. سكت لحظتها حين لم أجد لطفا ولا منطقا قادرين على تولي المهمة الدفاعية، كيف تستخدم المنطق لمواجهة العنصرية؟ كيف تستخدم المبادئ الإنسانية النبيلة لمصارعة من يتمرغ فرحا في لحظة حظ، لحظة نشوة وضعته في هذا الرحم عوضا عن ذاك؟ كيف تقارع بالحجة من يعتقد أن له حقوقا كفلها له حظ لا يد له فيه مطلقا؟
لا أعلم حقيقة لم أخذني هذا الحوار تحديدا إلى هذا البعد من الغضب، فأنا أسمع من الكلام العنصري وبشكل يومي ما قدم وافر التمرين لعقلي على تحمله والتعامل معه، فما الذي أخذني إلى هذه الدرجة من الغضب والألم، درجة أرقدتني بآلام شديدة في الخاصرة كأنني أمشي بسكين مسنون مغروس فيها؟ أهو مخزون الصبر نفذ؟ أهو تكرار البشاعة حتى مرضت الروح بسبب من روائحها الكريهة؟ أم تراني كبرت وما عدت أتحمل؟ نعم، كبرت وتراكمت عليّ السنوات، وتعبت من القسوة، فمتى “أنجو من الأسر وتنجو؟… لست أدري”*.