في فيديو مسجل لأحد مشايخ الدين العراقيين طرح هو سؤال: “مَن الأفضل لقيادة الدولة، مسلم ظالم أم كافر عادل؟” على الرغم من قِدم هذا السؤال وتكراره، إلا أن تأثيره بدا لا يزال حياً ينبض في مجتمعاتنا، لا نزال نحوم حول هذه الفكرة الغابرة، من نريد ليقود المسيرة، مسلم ظالم أم كافر عادل. بالطبع، التوصيف هنا يعود للسياسيين المشرعين في بلداننا، بالأخص أعضاء المجالس النيابية والبرلمانية والذين يتم اختيارهم بناءاً على تصنيفات دينية وطائفية في مختلف أنحاء الشرق الأوسط، وفي منطقة الخليج العربي تحديداً، حيث لا يزال النظام السياسي الفصامي قائماً: دول مدنية بحس ديني، دساتير علمانية بثغرات تشريعية دينية. فعلياً، نحيا نحن حالة فصامية بحتة تجعلنا جميعاً، ساسة ومشرعين وشعوبا، نعيش بوجوه متباينة متعددة.
تتغنى شعوبنا طوال الوقت بمبادئ العدالة الاجتماعية والحياد الديني والطائفي و”التسامح” مع “الآخر” والذين هما تعبيرين بحد ذاتها، “التسامح والآخر”، غير محايدين وغير متسامحين من حيث أن كلاهما يشيرإلى حالة من الاستعلاء والإقصاء. فما أن يحل وقت الانتخابات، أي انتخابات من أي نوع، حتى تتجلى الانحيازات في أسوأ صورها. تبدأ التكتلات المريضة تتواصل خفوتاً، هذا يسر لذاك أن لابد أن نصوت لابن ديننا، لابن طائفتنا، لابن قبيلتنا، لابن أسرتنا، ليرتفع الهمس لاحقاً إلى زعيق تسويقي لا يعلوه سوى صوت الإفتاء السياسي بحرمة التصويت لمن هم على غير دينك أو طائفتك. تتساقط الأقنعة مع كل انتخابات في أنحاء عالمنا العربي لتبدو سوءة التطرفات والتعصبات والانحيازات، وليضيع “الأصلح”، أكان كافرا أم مسلما، في بحر “الوحدة الوطنية” المتلاطم، وحدة نسمع عنها طوال الوقت، نترنمها في أغنياتنا على مر الزمن، نتباهى بها على المستويات المحلية ثم على المستوى القومي العربي، وحدة لا نرى منها سوى وجهها المنقسم البشع كل موسم انتخابات في شرقنا الأوسط المسكين.
أي السياسيين أفضل، متدين ظالم أو كافر عادل؟ المتدين الظالم أفضل بلا شك في منطقتنا غريبة الأطوار. فالعادل لن يستطيع تسيير عدله ولن يقنع الناس بتوجهه إذا ما لم يخاطب طائفياتهم وانقساماتهم، العادل سيُغضب التكتلات المجتمعية المبنية على التمييز والفُرقة، فكيف يستقيم للعادل شأن بينها. العادل سيساوي بين انتماءات وانحيازات لا تقبل المساواة، سيحكم مفاهيم مدنية حيادية لا تتجاوب وتوجهات دولنا العشائرية، العادل سيولعها ناراً إذا قيم السني كما الشيعي، إذا ساوى بين البدوي والحضري، إذا سمح للقانون الأعمى عن انقساماتنا العرقية والطائفية والدينية “يطبش” طريقه العادل بيننا، العادل سيقلب دنيانا عقبا على رأس، دنيا نحن قلبناها أصلاً رأساً على عقب واسترحنا لعقبها المرتفع ورأسها المدفون في التراب، العادل لا ينفع مع أمة مقتنعة أن ظلم السياسي تبرره ديانته وأن طغيانه وتماديه تحللهما وصايته وأن الغاية التدينية دوماً ما تبرر الوسيلة الظالمة المنحازة. العادل في مجتمعنا له مصير من اثنين: إما أن يدحره مجتمعه من أول أيام ممارساته السياسية وإما أن يحوله مجتمعه للصورة المرغوبة المحبوبة: متدين ظالم.
وهكذا نرى أن الكثير من الساسة وهم أبعد ما يكونون عن الدين، يستخدمون الصوت الديني لاقناع العامة. لقد حولتهم مجتمعاتهم لمتدينين ظالمين، متدينين لأن هذه هي الصفة الجاذبة المطلوبة وظالمين لأنه مع التدين السياسي لابد من الانحياز، لا يمكن أن تكون متدينا سياسياً وتعامل الجميع بذات المسطرة، ولا يمكن من أسفل عباءة الدين السياسي أن تشرع تشريعا حياديا مدنيا بحتا، سياساتك الدينية ستتطلب سلسلة من الأفعال والسلوكيات التي لابد أن تثبت بها ومن خلالها تدينك وانحيازك الطائفي كل يوم. لا خيار لك في عالم السياسة، إذا أردت لدينك وطائفتك أن تكون طرفا في الموضوع، سوى أن تكون متدينا ظالما.
أما نحن الشعوب، فنصوت منحازين لديننا وطوائفنا وقبائلنا وعائلاتنا، ثم نسافر لنتنفس “الهواء العلماني” عند الغرب الكافر الذي لن يقيمنا على أساس هذه التقسيمات. ولأنه لا قوة لمتدين ظالم في هذه الجغرافيا من الكرة الأرضية، تجدنا ونحن هناك نتحول إلى “كفار عادلين”، حسب التوصيف الساذج المتعارف عليه، نتحرر من أحمالنا المظهرية، نتخلص من السلوكيات المنافقة الثقيلة، نمارس الحياة ببساطة وطبيعية، ذلك إلى أن نعود لشرقنا الأوسط، فنخلع عباءة الكافر العادل ونلبس عباءة المتدين الظالم، نعود للأحمال المظهرية، للسلوكيات المنافقة، للأقنعة الخانقة، نهتف للمتدين الظالم ونسر لبعضنا البضع بأشواقنا الدفينة للزيارة القادمة للغرب الكافر. عجيبين نحن، عينة بشرية غاية في الغرابة والكوميدية و…الحزن.