أخطر الأحداث المحلية الحالية لا تتجلى في هذا الصراع البرلماني الحكومي الذي جمد البلد، ولا في التجاوزات والانتهاكات الدستورية الخطيرة، ولا في الفساد المتفشي لدرجة الاعتياد، ولا حتى في الحكومة المتراخية والتي تبدو أحياناً متآمرة، ولكن الأخطر والأمرّ يتجلى في ردة فعل الإنسان الكويتي، في هذا الانقسام والاصطفاف الشنيعين الذين يأتيان فوراً كنتاج كل حراك وكردة فعل لكل حدث يظهر في الساحة.
ليس هناك ما يفرح، ليس هناك منتصرون، هناك أخطاء وتجاوزات باهظة الثمن، نحن ندفعه اليوم من وقت البلد وطاقاته ونفسيات أبنائه. مخيفة هي ردة الفعل بعد حكم المحكمة الدستورية بحل المجلس الحالي وإعادة مجلس 2009، فسرعان ما اصطف الناس مع كتلة الأغلبية التي “اضطهدها الحكم السياسي” كما يعتقدون، وضدها في ابتهاج متشف في الأغلبية التي خسرت الرهان والبرلمان. ما لا يعيه الشارع، وغياب هذا الوعي هو الخطر الحقيقي، هو أننا كلنا رابحون وكلنا خاسرون في ذات الوقت. فمن جهة، ربحنا جميعاً سابقة قانونية تخفف من قهر مبدأ “أعمال السيادة” التي أتى هذا الحكم التاريخي ليحطم تمثالها المرعب الذي تعلق في رقابنا متسبباً في شلل للسلطة القضائية من حيث إحقاق حق المواطن ضمانة لمواطنته الكاملة، تلك التي لن يستقيم أمرها حتى تلغى فكرة “السيادة” السلطوية الشمولية بخطوة للأمام الإنساني الديمقراطي الذي يرى أن المواطن يتساوى وحاكمه دون سلطة مطلقة لأحد على أحد.
أما الجهة الأخرى الحزينة فهي هذا الإهدار للوقت والجهد اللذين يأتيان اليوم كثمن باهظ لا نملكه في الواقع. ما زلنا ندور في ساقية المجلس والحكومة، وكتلة الأغلبية وكتلة الأقلية بصراعاتها القديمة العنصرية المشخصنة التي ليس لها فعلياً علاقة بتنمية البلد ومصلحته. ما زلنا ندور في فلك حكومة متراخية لم تستمع لصوت العقل والتحليلات المنطقية والدستورية، فكلفتنا جموداً في وقت نحن أحوج ما نكون خلاله للحراك، بل كلفتنا عودة إلى الوراء ثلاث سنوات لنعود ونتعامل مع مجلس حل بكل نوابه ونوائبه، ولنهدر المزيد من الوقت والجهد صراعاً حول حله أو الإبقاء عليه مجلساً متوفى إكلينيكياً.
“ليس هناك ما يبهج” ولكن هناك دروس تستقى، فعلى الرغم من الاستياء العارم من أداء المجلس الأخير المنحل على الصعيدين السياسي والأخلاقي كذلك، فإن التشفي في أعضائه ليس إلا تشفياً في الشارع الذي اختارهم، ليس إلا إقراراً بهزيمة الإنسان الكويتي الذي لا يلبث أن يثبت فشل خياراته واحداً تلو الآخر في نتائج تدلل على أن العنصريات والتكتلات الطائفية والقبلية هي التي باتت تحكم عقليته واختياراته. إنه مؤشر خطير على بداية النهاية، وعلى السقوط المدوي السريع الذي لن يلحقه سوى حراك سريع من الشارع بحد ذاته.
حكم المحكمة الدستورية يعطل المجلس لكنه كذلك يؤسس لمنهج فكري جديد تجاه مفهوم أعمال السيادة، مؤكداً أن الإخلال بالدقائق الدستورية سيخل بالتوازن السياسي ككل في البلد، وهو درس نحتاج لاستيعابه وهضمه تماماً. فلنحكّم العقل ولنعِ بأن أغلبيتنا سيكونون أسفل المعبد إذا هدم. علينا أن نرفع سواعدنا جميعاً لنبقي السقف ثابتاً، لا تأخذنا لحظة حزن وغضب ولا نشوة وانتصار، كلها لحظات كاذبة مضللة تعبر عن اصطفافات خرقاء مريضة، سقفنا يحتاج لكل السواعد، مهما كان لونها أو دينها أو أصلها، ما إن يهبط ساعد منها، حتى يختل الميزان ويسري الشق في الحائط، وتبدأ النهاية…لا قدر الله.
«آخر شي»:
البيان الذي منع من النشر لكتلة الأغلبية ينقل ليس فقط العمل السياسي، ولكن العقلية الكويتية نقلة واسعة نحو الظلام الشامل، نحن نسير إلى نفق مظلم لا تبدو له نهاية، وحدهم أطراف النظام المتصارعون وحكوماتهم المسؤولون عن هذه الظلمة، هم صنعوها، هم سيغرقون فيها… ولكن ليس قبل أن يسحبونا معهم نحو القاع.
* العنوان هو لرواية للمبدع عبدو خال، قراءة أعماله اليوم ضرورة ملحة لوعي أفضل وقلب أرقّ وعقل أصفى.