لربما هذا المقال هو مقال بحثي مع نفسي، أختبر من خلاله الرأيين الذين أجد نفسي أتفهم كلاهما، أحدهما تتقبله نفسي ومشاعري وضميري، والآخر أجد له صدى في عقلي، فهل هناك رأي قاطع في الموضوع؟ علقت قبل أيام على أسلوب د عبيد الوسمي في النقد والذي هو أسلوب لربما مستمر منذ سنة 2012، ومعه استمر نقدي للدكتور ولمنهجية المعارضة ككل، كلاماً وفعلاً وتوجهاً رغم أنني مشاركة في الصف المعارض ومؤيدة لفكرته. يبقى أنني أرى أن منهجية المعارضة الفعلية وأسلوبهم الكلامي هما من أهم أسباب السقوط المدوي لها ولحراكها مع الأسف. إلا أن رد الفعل الدائم ومنذ سنوات حين أكتب أنا نقداً بهذا الاتجاه ينصب على اتهامي بالنخبوية الفكرية، وكأن الحنكة الخطابية السياسية تقتصر فقط على طبقة اجتماعية أو علمية معينة، وهو حكم بحد ذاته عنصري من أصحابه على غير وعي منهم، كما أنه حكم لا يستطيع أن يرى أن المستهدفين بالنقد ينتمون لذات هذه الطبقات، الدكتور عبيد الوسمي أكاديمي مخضرم، كان يقيم في الولايات المتحدة (لا أدري إن كان لا يزال هناك) ويُدَرِّس في أرقى جامعاتها ويكتب في أرقى صحفها، ومثله السيد مسلم البراك والدكتور وليد الطبطبائي الذين لم يأتون من خلفيات علمية واقتصادية مختلفة جداً عن تلك التي لي أو ربما أعلى، ثم السيدة صفاء الهاشم التي أتلقفها أنا بذات النقد والتي تنتمي لطبقة اجتماعية واقتصادية أعلى من التي لي، والتي يُغضب نقدي لها الفئة المعاكسة لتلك التي تَغضب لنقد الوسمي أو البراك. بمعنى، كل يغضب تجاه نقد “رمزه” ويسعد بنقد رموز غيره، وفي هذا التناقض معنى كبير وعميق.
هنا يتجلى السؤال، هل فعلاً يجب أن يأخذ أدب الحوار مقعد خلفي حين يستبد الفساد؟ على الطرفين المتقابلين أرى نموذجين خطابيين استشكاليين، هذا الذي للهاشم وذاك الذي للوسمي، نموذجين متفقين في الأسلوب، متضادين في الاتجاه. إلا أن مؤيدي الطرفين يرون الانحدار دوماً عند الطرف الآخر مبررين ما يبدر عند رمزهم على أنه “من حر ما في قلبه”، و”على قدر الألم يأتي الصراخ” و”هكذا فساد يحتاج لهكذا أسلوب.” فهل صدقوا رغم تناقض مواقفهم؟ هل فعلاً الحديث السياسي القوي المحنك يجب أن يأخذ كرسي خلفي للحديث السياسي العنيف المسيئ استناداً على استبداد الفساد؟
من الضروري هنا الإشارة إلى أن التوقعات الخطابية يفترض أنها تختلف من فئة لفئة، فالشارع العام والصوت الجمعي متوقع منه، بل أحياناً مستحب ومفضل، أن يكون ساخر قاسي وأحياناً مفتقر للأدب ليعبر عن الاستياء العارم للشعب، مع الأخذ بعين الاعتبار الفرق بين السخرية كأداة نقدية أدبية راسخة تستخدم بدرجاتها المختلفة ولها فاعليتها الرائعة في نقل المعلومة وتوجيه الرأي العام، والوقاحة التي تأخذ منحى شخصي وتتجلى في كلمات مبتذلة وتعابير تنفيسية، حيث يكون الخيط رفيع أحياناً بين الاثنين. نجد كل هذه الأساليب منعكسة في البرامج التلفزيونية الساخرة، في الأعمال الدرامية الغاضبة، في الأغاني، على وسائل التواصل اإجتماعي وغيرها من المنافذ العامة الجمعية. شخصياً، لا أجد لهذا الأسلوب التنفيسي الجمعي الحاد صدى في روحي، لكنني أفهمه بعقلي وأعرف أهميته انعكاساً من التجربة البشرية معه على مدى تاريخ طويل. إلا أن هذه التوقعات الخطابية يفترض أن تسمو بعض الشيئ حين توجيهها للساسة المخضرمين، لصناع الرأي، للمشرعين وللحكوميين، وهذا ما نفتقر له في الفترة الأخيرة تماماً على الساحة المحلية، والذي نجد أثره منعكساً بشدة على الأجيال الجديدة التي باتت تعتقد أن البطولة تكمن في الوقاحة وأن الجرأة تتجلى في الإهانة والسخرية والشتم حتى في مجال العمل السياسي العام.
ليست هذه الظاهرة قاصرة على مجتمعنا العربي، بل إن هناك تسيداً لهذه الهمجية الخطابية في العالم أجمع تتجلى في خطابات قيادات دول مهمة ومؤثرة في الموازين العالمية، حتى بتنا نشير لعصرنا بأنه عصر الصفاقة وأننا نحيا الآن على “نظام التفاهة” والذي هو كذلك عنوان لكتاب مهم لمؤلفه د آلان دنو ومترجمته د مشاعل الهاجري. وكتاب د دنو لا يشير للهبوط الخطابي فقط، بل هو يشير لتسيد “التافهين” حسب تعبيره للقيادة وأخذهم زمام صنع القرار، مما أفرغ كل عمل من معناه الحقيقي وأعطى الرفعة والصدارة لأشخاص خالي الوفاض. هنا يتجلى السؤال، نحن نعرف تماماً مضار احتلال “التافهين” للمراكز القيادية، تلك واضحة لا تحتاج للكثير من الشرح، ولكن ما هي مضار الخطاب السياسي المتدني على الساحة العملية وعلى الوقائع الحياتية للبشر؟ هل الاعتراض على هذا الخطاب يتأتى فقط من باب أن آذاننا لا تتحمل ومشاعرنا لا تتعامل مع الخطاب العنيف أم أن هناك مضار فعلية لهذا الخطاب ننساها نحن في خضم اللذة التنفيسية له والنشوة الروحية للاستماع لمفرداته التي تغذي هذا الجانب المظلم في نفوسنا؟
حين وصل بوريس جونسون لرئاسة وزراء بريطانيا ودونالد ترامب لسدة الرئاسة الأمريكية تغير المظهر العام للحياة مع التغير العنيف الذي حدث للخطاب السياسي في هاتين الكتلتين المهمتين. إذا كنا نعتقد أن أسلوب الخطاب السياسي غير مؤثر إنما الفحوى هو فقط ما يعنينا، علينا أن نراجع ما حدث إبان رئاسة ترامب للولايات المتحدة الأمريكية. كانت لترامب سياسات حادة مغايرة للمعتاد، إلا أنه في معظم المواقف، لم يخرج ترامب عن السياسة الأمريكية العامة. مثال على ذلك سياسته تجاه القضية الفلسطينية، فهي في الواقع لم تختلف عن سياسة من سبقه من رؤساء بمن فيهم “المحبوب” أوباما، إلا أن ما اختلف هو خطابه الذي أشعل نيران الشوارع العالمية كما حرفياً الشارع الأمريكي. لربما في البداية بدى خطابه الجريئ حد الوقاحة مختلف مثير للاهتمام “بصراحته” غير المعهودة، إلا أن استمراريته أتت بما لا يحمد عقباه. الخطاب الترامبي المنحدر غير كل شيئ. (الصورة المرفقة هي تغريدة انتقادية من د عبيد الوسمي للأسلوب الترامبي)
العنف يولد العنف، ينطبق ذلك على الخطاب كما على الفعل. حين يصبح الخطاب السياسي العام عنيف، ذلك الخطاب الصادر من المشرعين والقياديين والنماذج البارزة، تتسم الصورة العامة بالعنف، وينحى المجتمع بمعظمه للانحدار في الخطاب، وحين ينحدر الخطاب، ينحدر الفعل كذلك، ليتجه المعظم للتصرفات العنيفة العشوائية. لربما الخطاب العام لمسلم البراك مثال جيد على ذلك، هذا الخطاب الذي أشعل الوجدان الشعبي دون منفذ تفعيلي، دون خطة واضحة، لتندفع الجموع بهوجائية لاقتحام مجلس الأمة (وهو فعل لا يستحق تبعاته أبداً رغم هوجائيته) ولتبدي الجموع تصرفات غير لائقة بالمكان ورمزيته. المثير في الأمر أن ذات الأحداث توالت على إثر الخطاب الترامبي، حين اقتحم مؤيدي ترامب مجلس الشيوخ في صورة تذكر بأحداث الكويت. عنف الكلمات يورث عنف التصرفات.
على الطرف الآخر من المعادلة، نستطيع أن نشهد أثر خطاب صفاء الهاشم على الجموع، حيث يمكنني أن أدعي أن خطابها منفرداً استطاع تحويل المزاج العام ورفع نسبة عنصريته وزيادة مقدار غوغائيته بكل ما حوى من إثارات “لذيذة” وتنفيسات لا عقلانية لوضع متأزم محتقن. لاقى الخطاب تجاوب شعبي واستتب في وجدان الناس حتى استقرت الكثير من مقولاتها المسيئة في الخطاب العام. وكذا فعل خطاب البراك، خطاب الوسمي، خطاب مرزوق الغانم ومفردات “صيحات” أخيه، كأمثلة لا حصراً، تأثيراً على المزاج العام. لقد تغيرت اللغة (لتدخل في مفرداتها كلمات مثل معازيبك، يا خبل، يا أهبل، وليتجلى فيها تهديد بالعنف مثل التهديد بالرمي من مباني مرتفعة والذي أتى مرتين على الأقل على لسان د الوسمي، ولتتصدرها صيحات مثل “مرزوق محد يطاله” والتي صاح بها شقيق الغانم بعد فوزه في الانتخابات) وحين تتغير اللغة، يتغير أسلوب التفكير، وحين يتغير أسلوب التفكير، تتغير الأفعال والحلول. لم نعد نسمع خطاب نظيف ولا نرى فعل عفيف، كله فساد في فساد، مالي، سياسي، خطابي بتداعياتها جميعاً.
المسألة ليست بالمخملية التي يلصقها بها مؤيدي هذه الرموز. الموضوع ليس جرح إحساس أو مضايقة من صراخ أو أسلوب، المضار تتعدى ذلك بكثير لتؤثر على المزاج العام، على طريقة التفكير وعلى فلسفة الحلول. لطالما امتلأت الساحة الكويتية السياسية بالنماذج القوية المؤثرة، شيعة وسنة، بدو وحضر، تجار وبرجوازيين، إلا أن هذه الساحة، لربما كما الساحة العالمية، لم تشهد انحدار خطابي وبالتالي فعلي، كما تشهده في الوقت الحالي. لم يخرج علينا سابقاً نواباً يصرخون بهذه الصورة، مشيرين إشارات عنصرية للأجانب، ضاربين القانون في مقتل، مهددين بالعنف الجسدي، ساخرين على طريقة “هوشة شباب”، بخطاب لا يرقى للخطاب النيابي العام. وعلى حين أن هذا الأسلوب متوقع، ولربما مطلوب من البعض في الساحة العامة، إلا أنه يصبح مصدر خطر إذا استفرد بالساحة “الخاصة”، إذا شكل وجدان العمل السياسي وأصبح هو الصيغة السائدة لا المستثناة لظرف أو حالة. من الملاحظ مثلاً أن أسلوب د الوسمي هو ذاته في كل مناسبة، إبان كل خطاب، ندوة أو مقابلة. بالعموم، أصبح أسلوب الوقاحة والعنف والصراخ هو القاعدة فيم تحول الخطاب الراسخ القوي المعزز بالحقائق للاستثناء. يحضرني في هذا المجال ما كتبه ديفيد بروكس في مقاله “أنا لست شارلي إيبدو” حيث يقول:
في معظم المجتمعات، هناك طاولة للكبار وطاولة للصغار. الأشخاص الذين يقرأون اللوموند أو الجرائد الناطقة باسم المؤسسة يجلسون على طاولة الكبار. المهرجون والحمقى والأشخاص أمثال آن كولتر و بيل ميهر يجلسون على طاولة الصغار. لا يُعطى هؤلاء الاحترام الكامل، الا أنه يتم الاستماع اليهم لأنهم، ومن خلال أسلوبهم الصاروخي المتخبط، يقولون أحياناً أشياء ضرورية لا يقولها أحد بخلافهم.
ان المجتمعات الصحية، بتعبير آخر، لا تقمع الحديث، الا أنهم يوعزون مواقف مختلفة تجاه أنواع مختلفة من الناس. يتم الانصات للباحثين الحكيمين المهذبين بأعلى درجات الاحترام. يتم الإنصات للساخرين بشبه احترام يشوبه شيء من الارتباك. يتم الانصات للعنصريين ومعادي السامية من خلال مصفاة من الخزي وعدم الاحترام. الأشخاص الذين يرغبون في أن يستمع الآخرون اليهم بانتباه يتوجب عليهم أن يجنوا ذلك من خلال سلوكهم. (الترجمة لي)
من هنا، لا يمكن نفي أهمية الخطاب الأهوج، إلا أن مصدره وعرضيته مهمين، فلا هو مناسب لصناع الرأي العام والقرار، ولا استمراريته منهم (إن أقررنا أنه من حقهم أحياناً) مفيدة أو مؤثرة، بل إن الاستمرارية لها أثر سلبي خطير كما هو واضح من الأمثلة المتعددة في تاريخنا البشري السياسي.
لطالما امتلأت الساحة الكويتية بعمالقة سياسيين، كان خطابهم جباراً، وكانت تضحياتهم فذة، وكانت جرأتهم غير مسبوقة، وكان نتاج عملهم واضح ومؤثر، إلا أن أي منهم لم يحتج في يوم لأن يصرخ بغوغائية أو أن يصف بانحدار أو أن يشتم بعنف. في هذا السياق كتبت أنا في 2017 مخاطبة دكتور الوسمي في مقال بعنوان “ما طاح الحطب” قائلة
نعلم أن الخطاب يعبر عن الألم والمعاناة، نتفهم أنك تختار الكلمات التي تفصح عن المصاب الجلل، ولكن هل ينقصنا في خطابنا الحالي عنف لفظي حتى تشجعه بأوصاف مثل «تافه وأحمق وأهبل»؟ وهل نحن بمنأى عن العنف حتى تحفزه ولو مجازاً بضرورة إلقاء وزير من برج الحمرا؟ حرية رأي وتعبير بكل تأكيد، ولكنك بتعابيرك تحفز وحشاً كامناً في النفوس البشرية، تلك التي تحتاج تدريباً طويلاً لتتأهل للحوار المتأدب الفاعل وللعمل التغييري الحقيقي، ولا تحتاج إلا لكلمة من رمز مهم عند الشباب مثلك، ليعيدها مسافات للوراء، إلى خطاب عنيف وعمل انفعالي لا ناتج منه. تلك هي طبيعة النفوس البشرية في كل مكان، تحتاج لجهد جهيد لتتحول لخطاب هادئ وعمل فاعل، ولا تتطلب سوى كلمة اشتعالية لتحرق بها المعبد بمن فيه.
ينحى البعض لمحاولة ربط الحوار السياسي القوي المتأدب الرفيع بالمخملية، وهو بحد ذاته ربط عنصري، وكأن قائله يعتقد أن الأدب لا يتوفر إلا للمخمليين، وأن الخطاب الرصين ليس سوى من نصيب المرفهين، نافياً هذه القدرة الخطابية عن الأقل حظوظاً في الحياة، وفي هذا تناقض ليس فقط أخلاقي ومنطقي ولكن كذلك تناقض مع واقع تاريخي، فبعض أفضل الخطابات صدرت من بعض أقل الناس حظوظاً ومخملية في الحياة، غاندي (رغم التحفظات الكثيرة عليه)، ومارتن لوثر كينغ ونيلسون مانديلا أمثلة، والأخير تحديداً ورغم كونه قضى سبعة وعشرون سنة في السجن ثمناً لدفاعه عن قضاياه الإنسانية، إلا أنه لم يستخدم ضغينة ضياع هذه السنوات للهبوط بالخطاب أو للشتم والتنكيل اللغوي حتى بعد أن نال مناصب قيادية تمكنه من كل ذلك بأمان، وعلى الرغم من معاناته التي قد تبرر له العنف اللغوي. لقد عمل مانديلا بإخلاص ورفعة، حتى أصبحت كلماته أمثلة وأفعاله أيقونات سياسية يحتذى بها.
في نهاية الامر، ليست كلماتي دعوة لإقصاء الصوت السياسي الزاعق، فالفحوى رأي، وأسلوب الطرح حرية، كلها يجب أن تحميها الدولة المدنية. إنما أنا هنا أنتقد نوعية الخطاب البارزة من أشخاص بارزين على مدى ما يزيد عن العشرين سنة الآن على الساحة الكويتية، والتي ما تسببت سوى في المزيد من التدهور والمزيد من الخسارات لكفاءات وأعمار وقدرات. لقد حاربت الحكومة الكويتية الخطاب المعارض بالقانون ولو ظاهرياً، واستطاعت أن تنفي وتقاضي وتحبس ناشطين بارزين بأحكام قانونية، نعلم طبعاً جانبها السياسي، إلا أنه تكنيكياً، الحكومة حمت نفسها وحققت مرادها بصورة قانونية مدعاة، وما فعل الصاخبون السياسيون سوى أن أعطوها مرادها على صحن من ذهب. منذ زمن ونحن نقول بطريق ثالث، ليس الطريق الحكومي، وليس طريق المعارضة، نحتاج نسمة هواء جديدة، فلسفة عمل جديدة، حلول واقعية مباشرة، لا زعيق عالي تنفيسي، كل ما يفعله أن “يبرد جبود الناس” بما يهدئ خواطرهم، وهو في الواقع يخلي إراداتهم من العمل الحقيقي. الزعيق والشتم واستخدام المفردات الحادة الصاخبة كلها أفعال لذيذة، تشفي الغليل، لكنها تخمد الهمم وتخرب الخطط وتفسد فلسفة العمل الجاد خصوصاً في محيط مرتاح مادياً مثل محيطنا، سيكتفي الناس فيه بالتنفيس ولن يتعدوه لعمل حقيقي ممكن أن يهدد حياتهم ومعاشهم ودرجة راحتهم المتوفرة. اتخذ الطريق القانوني، أو اتخذ الطريق الثوري، حرك الشارع، حقق تغيير، كل ذلك يمكن تحقيقه بخطاب قوي بل وغاضب وأحياناً حتى صارخ إذا ما كان في عمقه متزن لا ينفس بلا هدف.
في النهاية، أقر أنني أراجع المفهوم في عمقه، أتساءل أن لربما هو كما يقول المدافعين عن التوجه الصاخب أن فساد الأحوال يستدعي فساد الخطاب، أن سوء المنقلب يترجى سوء الحوار، “أن هكذا حكومة تستدعي هكذا نواب وناشطين سياسيين” وهي الجملة المنفرة بالنسبة لي شخصياً والتي تتردد كثيراً كأنها عذر أقبح من ذنب. واقعياً، قد يكون كل هذا الانحدار رد فعل لكل ذاك الفساد، وقد تكون هي مثالية مني أن أبقى أطلب شيئ أفضل. لكن فساد على فساد وسوء على سوء، إلى أين سيوصلنا كل هذا؟ وعلى أرض الواقع، هل حققنا شيئ فعلي من استمرارهما؟ هل أوصل “الستايل” الترامبي إدارته لنتائج فاعلة؟ هل حقق الخطاب المعارضي الجديد عندنا إنجازات في مواجهة الفساد؟ أهم ما يفصل في الموضوع هو النتائج، فأين هي وما هي طبيعتها غير أنها ملأت الساحة بالشتامين المتطاولين الذين تقاضيهم الدولة كل يوم لنخسرهم في قضايا تدخلهم دوامات طويلة، ولتفرغ ذات الساحة من حوار حقيقي وحلول فاعلة وقوة خطابية يمكن أن تنقذنا من الواقع الضعيف؟ ذات النواب الصارخين هم من أقروا ذات زمن قوانين تسجنهم والشباب الذين يتبعونهم كل يوم، هم من أوصلونا لهذه المرحلة من الغياب الحرياتي والتكبيل الخطابي، واليوم لا يكتفون “بإنجازهم” هذا، بل يخلقون له ضحايا كل يوم بنشر أسلوب خطاب لا أثر ولا نتيجة له سوى سجن ونفي وإبعاد الشباب عن الساحة وقبل هذا وذاك يتجلى أثره التخريبي في الهبوط الواضح في الذوق اللغوي والسلوكي العام وفي تغييبه للحلول المنطقية والتفكير العقلاني المتزن الذي لا يمكن أن يتجلى سوى على إثر خطاب يحترم الساحة وجدية وخطورة المواضيع التي تدور فيها. هل أترجى أنا حالة مثالية؟ ربما، لكنها ليست حالة متخيلة، بل هي تحققت في الكثير من المجتمعات، منها من هي أقل حظاً اجتماعياً واقتصادياً منا، فأي لعنة أصابتنا جعلت الحالة الإنسانية المنطقية المتزنة رفاهية لا نستحقها؟