تحميل إغلاق

رفاهية الأخلاق

رفاهية الأخلاق

انشغلت على مدى الأيام السابقة في حوار “تويتري” حول تقييم لغة الخطاب السياسي محلياً وعالمياً وذلك على إثر انتقادي لأسلوب أحد رموز المعارضة في الكويت والذي لا أراه منفصلاً كثيراً عن أسلوب الخطاب السياسي العالمي العنيف والذي أسست له قوى كبيرة ومؤثرة في العالم. كان نقدي قائماً على أن الخطاب السياسي الوقح يؤسس لهبوط عام في مستوى التبادل اللفظي في المجتمع، مما يجر معه قبول للوقاحة والعنف السلوكيين، وهي كلها ظواهر ومترتبات ملحوظة على مستوى العالم أجمع. بالتأكيد، يبقي نقدي هذا عند طبيعته، مجرد نقد، لا يتخطى ذلك لأي مطالبة بإسكات الرأي مهما بلغ عنفه ووقاحته. فالفحوى والأسلوب يدخل كلاهما في مساحة الحرية التي يجب أن تكون مصانة مقدسة مهما بلغ تردي نتاجها، والذي تستوجب معالجته فقط بالنقد والحوار الذين يقدمان للمجتمع وخطابه فرصة تقويم وإصلاح الذات. المجتمع هو الذي يفترض به أن يعدل هذه الظواهر من خلال رفضها ومقاومة “لذتها” دون تدخل قانوني يحيل التعامل مع الموضوع إلى حركة قمعية متعدية على حرية الرأي.

ولأنني أدرك تطرفي تجاه أسلوب الخطاب، وهو تطرف منعكس على حياتي الشخصية التي لا أقبل فيها التبادل اللفظي العنيف مطلقاً وعلى تقييمي العام للأشخاص حيث سرعان ما أتراجع بحدة عن التعامل معهم إذا ما بدى منهم غلظة أو تمادي، ارتأيت أن أراجع الموضوع نفسياً وبحثياً في محاول مني لتقييم الرأي الآخر. يظهر بوضوح، من خلال التعامل الشخصي مع الناس أو من خلال القراءة البحثية أن هناك علاقة اطرادية بين عنف الخطاب السياسي وارتفاع نسب الفساد، حيث يجد الناس ليس فقط تبرير بل وكذلك ترحيب باللغة العنيفة طالماً أن الفساد مستبد. وعلى حين أن قبول هذه الممارسة كان ينصب على الحركات الشعبية، أي من عامة الناس في حركاتهم الاعتصامية أو الثورية، وفي ذلك أنا أتفق تماماً، إلا أنه مؤخراً زحف هذا القبول كذلك للخطاب السياسي الرسمي من البرلمانيين والساسة وحتى أعضاء الحكومات المختلفة، وهي الجزئية الاستشكالية في رأيي، فهؤلاء الأفراد الموجودين تحت الأضواء ليسوا كغيرهم من عامة الشعب وتأثير خطابهم ليس كتأثير أي خطاب آخر.

نقطة أخرى يبدو أن لها وزن كبير في تقييم أسلوب الخطاب تنصب على نوعيته. بمعنى، من الحجج الكثيرة التي وردتني أن الخطاب السياسي هو مساحة للقسوة وأحياناً للصفاقة، هو بمجمله عمل غير نظيف مما يتطلب في أحايين كثيرة لغة غير نظيفة. لا يمكن أن تحارب الفعل الفاسد بالخطاب النظيف، هكذا يرى الكثير من أصحاب الرأي الآخر، وبما أن السياسة كلها فساد، فإن خطاباتها لا يجب أن تقل عنفاً ووقاحة. فمن باب مفهوم “ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة” فلابد من تقبل كذلك أن “ما تدمر بالفساد لا يمكن إصلاحه إلا بالعنف.” وفي هذه الجمل المؤذية الكثير من الحقيقة.

وفي بحث بعنوان “Swearing in Political Discourse: Why Vulgarity Works” أو “الشتيمة في الخطاب السياسي: لماذا تنجح البذاءة” يقول الكاتبين، أنه من خلال نتائج دراسة تجريبية لهما تبين أن “استخدام المرشحين للشتائم يرفع من درجة الوعي بعامية اللغة كما ويحسن الانطباع العام لمصدر هذه اللغة” أي أن الدراسة تشير إلى أن الشتائم تحفز شعور الناس بتلقائية وعامية المتحدث فتجعله أقرب لنفوسهم.

تؤكد الدراسة أن هذه الجزئية أكثر قبولاً عند الرجال منها عند النساء، أي أن الشتائم السياسية مقبولة أكثر من الذكور عنها من الإناث، حيث يوعز ذلك إلى “الأنماط الجندرية المنعكسة كذلك في مواءمة اللغة التي يمكن استخدامها من الرجال والنساء”، بمعنى أن القبول النمطي لسلوك النساء والرجال هو مُحَدِّد مهم لدرجة البذاءة المسموحة في خطابات الجنسين.

تشير الدراسة كذلك أنه على الرغم من أن اللغة البذيئة لا تؤثر على قبول المتحدث لدي الناس أو حتى على حظه في التصويت له، أي أن التصويت للمرشح لن يتأثر بخطابه البذيء، وهذه حقيقة نرى الأمثلة عليها كل يوم، إلا أن البحث يؤكد أن هذه اللغة تخفض من نسبة اقتناع الناس بالفكرة المطروحة. البذاءة جذابة وقد تضفي عند العامة ألفة تجاه المتحدث من حيث كونه قريب للغة الشارع وهي كذلك لن تؤثر على حظ المرشح في الحصول على أصوات (إن لم ترفع هذه الحظوظ في الواقع وذلك في رأيي الشخصي)، إلا أن هذه اللغة لن تزيد من قناعة الناس بالفكرة المطروحة. البذاءة لن تجعل الفكرة أقوى لكنها ستجعل المتحدث أكثر ألفة وقرباً من قلوب الناس.

وفي موضوع “لطيف” نشر على CNN politics في سنة 2018 يؤكد الكاتب أنه “إذا بدا لك أن لغة الساسة قد أصبحت أكثر ملوحة مؤخراً. . .فأنت محق”. يشير الكاتب إلى الارتفاع الدراماتيكي في استخدام الشتيمة بين أعضاء الكونغرس ومشرعي الولايات المختلفة على وسائل التواصل الاجتماعي طبقاً لمعلومات مؤسسة GovPredict للدراسات التحليلية. فمثلاً، يقول الكاتب أنه “في 2012، تتبعت المؤسسة 83 واقعة لمشرعين يستخدمون كلمات بذيئة. عبر السنتين التاليتين، ارتفع هذا الاستخدام ببطء، ولكن في 2017 – السنة التي وصل فيها ترامب للرئاسة – انفجرت النسبة بعدد 1571 واقعة. لحد الأن في السنة الحالية هناك 2409 واقعة”. تؤكد المؤسسة أن كلمة sh*t ومتعدداتها شهدت أكبر نسبة ارتفاع في الاستخدام بعد أن استعملها ترامب في وصف دول مثل هايتي ودول أفريقيا. إلا أن أكثر الساسة الأميركان “ملوحة” في الخطاب حسب رأي الكاتب هي شيري فروست والتي تؤكد أن “فلسفتي أن هذه الكلمات موجودة لسبب. القدح هو طريقة لطرح نقاط مهمة”.

يقول الكاتب أن فروست تؤكد أن لديها ناخبين يقدرون لغتها هذه وآخرون لا يقبلونها وأن “لهؤلاء الذين لا يقبلون لغتها، هي تقول، إذا كانوا أكثر استياءً من اللغة التي تستخدمها هي عن استيائهم لما تحاول هي استحضار انتباههم له من خلال استخدامها لهذه اللغة، إذن “أنت جزء من المشكلة”.

هذه النقطة تحديداً هي أكثر ما وجهني كرد وكنقد على نقدي، أن فحوى الخطاب قد يكون أخطر بكثير من أسلوبه وهو ما يستوجب التركيز عليه، وعلى حين أنني أتفق على الخطورة الكبيرة للفحوي، إلا أنني أجد أن الأسلوب أضاف لهذه الخطورة ولم يخدم مطلقاً غاية إصلاحها. بمعنى، بكل تأكيد أسلوب المعارض الكويتي الذي انتقدته ليس بخطورة فحوى كلامه ولا يقترب منه أساساً، ولكن يبقى هذا الأسلوب مصدر ضرر إضافي ومنفذ لعنف متصاعد.

في موضوع طريف آخر نشر على موقع The Hill، أَقَر بيرني ساندرز أنه يستخدم البذاءة مثله مثل غيره “لكنني أحاول ألا أستخدمها أمام كاميرا التلفزيون”، وهي لربما النقطة التي كنت أحاول إيصالها. هناك صعوبة في التحكم باللغة في خضم كل هذا الفساد، والشتائم ستنزلق بين فترة وأخرة من أفواه الساسة ولربما بتبريرات مقنعة، ولكن لربما محاولة ضبط النفس مهمة كذلك لغرض تحسين الخطاب العام من جهة وتقليل العنف السلوكي من جهة أخرى.

لابد لي أن أعترف أنني أتفهم تماماً حجة الطرف الآخر من حيث اختلاف نوعية الخطاب السياسي واحتياجه للعنف أحياناً ومن حيث أهمية فحوى النقد عن الكلمات المنتقاة له ومن حيث أن السخط يجب أن يطال الفساد لا الكلمات الفاسدة التي تعبر عنه، فهذا السخط هو كل ما نملك وهو ما أنتهجه أنا وغيري ممن يتخذون موقف معارض حاد. ولكن، ورغم اتفاقي التام على أهمية النقد الساخط وعلى ضرورة أن يبقى الخطاب غاضباً حاداً لا تأخذ أصحابه بحكوماتهم رأفة ولا شفقة، إلا أنني لازلت أؤمن بأهمية انتقاء الكلمات.

يقول ريتشارد كايت في مقال له نشر في 2010 على موقع جريدة لاكروس تريبيون حول أهمية الحياة الأخلاقية “الكلمات تشكل حيواتنا. القوانين التي تشكل مجتمعنا مصنوعة من كلمات. العهود والمواثيق، والتي تحدد أهم خطواتنا في الحياة، هي مشكلة من الكلمات. الحروب تبدأ بإعلان وتنتهي بمعاهدة. العلاقات طويلة الأمد تهدم بإهانة وتترمم باعتذار. دون الكلمات لن يكون لدينا حياة “إنسانية” يمكن تمييزها مطلقاً.”

الأخلاق رفاهية بلا شك، فهي ممكنة حين يكون الإنسان مستقراً شبعاناً آمناً. والحديث عن الأخلاق وقت الفساد قد يكون ضربا من الغياب عن الواقع. ولكن، ومثلما للفساد أثر غائر في حيواتنا، كذلك للخطاب أثر غائر وطويل الأمد، والأمثلة على قدرة الكلمات على إشعال العنف اللفظي والسلوكي والمجتمعي أكثر من أن تعد أو تحصى. عقلي يقول لا مناص من تفويت البذاءة السياسية وروحي تقول بهذا التفويت نحن نصب الزيت على النار. في النهاية، ستخدم البذاء السياسي، سترفع من شعبيته ولربما ستلفت الانتباه للمشاكل، لكنها لن تساهم في اقناع الناس بالرأي ولن تقدم حلولاً فاعلة. ويبقى أن نقر أن البذاءة نسبية كذلك، لا مقياس لها ولا تعريف يمكن أن يحصرها، ما قد يبدو بذاء لي قد لا يبدو كذلك لغيري. لا مفر إذن من تحملها، ولكن لا مانع من نقدها، “خلونا” ننتقدها، هذا أضعف الإيمان.

اترك تعليقاً