ما بقي غيرنا نحن في الشرق الأوسط، نتغنى بموتنا «ليحيا الوطن»، ونشتهي الردى للوصول إلى الجنة، وحدنا بقي الموت بالنسبة إلينا أشهى من الحياة، وحدنا حاضرنا مظلم مؤلم إلى درجة أن ظلمات الموت وغيبيته ومجاهله كلها تبدو جذابة مقارنة بالحياة، وحدنا نحلم بالحدائق الغناء بعد الفناء.
يقول توماس ديلين في قصيدته الرائعة التي كتبها حين كان والده على فراش الموت في سنة 1951:
Do not go gentle into that good night,
Old age should burn and rave at close of day;
Rage, rage against the dying of the light
وأجمل ما قرأت من ترجمات لها ما كتبه مصطفى آدم على الصفحة الإلكترونية للجمعية السودانية للدراسات والبحوث في الآداب والفنون والعلوم الإنسانية:
لا تخطُ وئيداً في هذا الليل الطيب
ولتتوقد مشتعلا في آخر هذا الدرب
شيخاً يسقط في لجة الفناء
فلذا، عليك بالغضب… عليك بالغضب
عند تلاشي ذلك الضياء.
ولقد ذكرني بالقصيدة سرد رائع لها في فيلم “إنترستيلار” عندما كان بطل الفيلم ينطلق غائباً في ظلمات الفضاء بحثاً عن موطن جديد للبشرية، بعد أن دمر البشر بيئة الأرض الطبيعية. والقصيدة تدعو إلى فلسفة جديدة في التعامل مع الموت، إلى عدم الاستسلام “الوئيد” له وإلى محاربته إلى آخر نفس، إلى التمسك بالحياة لآخر لحظة وإلى الاشتعال غضباً ضد لحظة انطفاء ضوئها، وهكذا هو الغرب، منذ بدايات عصر النهضة في القرن الرابع عشر وبعد أن بدأت دوله القائمة تنفصل عن مؤسساته الدينية، يشجع فلسفة الحياة فوق فلسفة الموت، يعتبر الموت عقبة، عدواً، تحدياً يجب التغلب عليه. اليوم، يقول بعض العلماء، إنه لربما بعد جيلين أو ثلاثة من البشر، ستنتفي ظاهرة الموت، وسيواجه البشر مشاكل جديدة مع… خلودهم.
في الشرق الأقصى كانت هناك فلسفات مهادنة للموت وأحياناً مرحبة به، مؤمنة ببقاء أرواح الموتى ساكنة في الطبيعة التي يقدسونها، إلا أن هذا الشرق الأقصى سرعان ما تطور، فاستبدل فلسفته المرحبة بالموت إلى أخرى داعية إلى الحياة، وحتى اليابان التي كانت الأولى في اختراع فكرة التفجيرات الانتحارية حين استخدمت “الكاماكازي” أو الهجمات الانتحارية ضد أعدائها إبان الحرب العالمية الثانية، وعلى الرغم من تمسكها الحالي الشديد بعاداتها وتقاليدها ومن استمرارية الصرامة في أفكارها ومعتقداتها، فإن هذه اليابان قد تعدت هذه المرحلة البشرية البدائية التي تسترخص الحياة، مؤمنة أن أثمن ما لديها من موارد هو تلك البشرية.
ما بقي غيرنا نحن في الشرق الأوسط، نتغنى بموتنا “ليحيا الوطن”، ونشتهي الردى للوصول إلى الجنة، وحدنا بقي الموت بالنسبة إلينا أشهى من الحياة، وحدنا حاضرنا مظلم مؤلم إلى درجة أن ظلمات الموت وغيبيته ومجاهله كلها تبدو جذابة مقارنة بالحياة، وحدنا نحلم بالحدائق الغناء بعد الفناء، بالتحرر من كل المحرمات والذي لا يتأتى سوى بالموت، هذا الذي يورثنا كل المباهج، كل المتع التي يتمتع بها أهل الغرب في حياتهم، نحن نريد الموت لنحصل على حياة الغرب، نسعى إلى الفناء لنصل إلى ما حققوه هم في الوجود.
إنه واقع حزين ألا نغضب في وجه الموت، بل نحن نستدعيه ونرحب به ونذهب رائقين إلى لبه المظلم المجهول. لا تتحقق معادلة عوجاء كهذه، أن يرغب مخلوق في فنائه وانتهاء بقائه، إلا عندما تصبح حياته بكل حقيقتها أكثر إيلاماً من فكرة فنائه بكل رعبها ومجهوليتها.
يجب ألا نذهب للموت دون حرب، لربما هي الحرب الوحيدة إنسانية المحتوى، سلمية المرمى، هي الحرب الوحيدة التي يمكن تصديق أنها تخاض من أجل السلام.