كثيرة هي الأحزان والآلام في هذه الدنيا، منها ما يمر وينساه زمننا، ومنها ما يبقى أثراً عميقاً ظاهراً على سطح شخصياتنا وتصرفاتنا، حين يغيرنا ويبدل طيبة أرواحنا من شيء إلى شيء. أعلِّم أنا عمري بأحزاني، العامة الكبيرة كما الشخصية الدقيقة، ليكون مثلاً حدث غزو الكويت هو أحد أهم الفواصل الزمنية في حياتي كما هو في حياة الكويتيين عموماً، فترانا عادة ككويتيين نقول «حدث هذا قبل الغزو» أو «وقع ذاك بعد الغزو» لتنقسم حياة أمة بأكملها بهذا السيف الحاد عميق الطعنة.
ولأننا بشر أنانيون من حيث اعتقادنا أن هذا الكون البارد الرهيب يدير لنا بالاً فيما نحن في الحقيقة مجرد بكتيريا غير مرئية غير مؤثرة ستختفي في ومضة من زمن هذا الكون ودون أن يشعر بنا، لأننا بهذه الأنانية والعجرفة، تجدنا نعلّم الزمن الذي يمر بأحزاننا الشخصية الصغيرة كذلك. أعلم أنا بنمنمة وتفاهة هذا السلوك، أن أصنع من أحزاني إشارات للزمن، وأن أسمح لآلامي بأن تغيرني لتحيد بي عن المسار الذي كنت عليه. ولأنني أدرك ضعف قلبي هذا، أن ما يحدث نهاراً سيعمل خناجره في روحي ليلاً ليحولني عن مسار قربي ومحبتي وثقتي بالآخرين، تجدني سرعان ما أنغلق على روحي في محاولة لحمايتها، وتجد هذه المحاولة غالباً ما تفشل كلما أمعنت في تنفيذها، لتبدو روحي وكأنها كتلة ألم مفتوح لصقيع صحراء خاوية في عز شتاء قارس، فتتثلج عروقي وتنغلق مسام الهواء الراقدة على جلدي، إلى أن يأتي صيف لاحق، فيبدأ بإذابة الثلوج التي تحولت لحينها إلى جليد، ولأكتشف جروحاً غائرة دميمة أسفل الصقيع المتجمد وقد نحتت نفسها بأبدية في لب روحي، لن يشفيها زمن ولن يخفيها تظاهر أو تمثيل.
أستحي حين أتحدث عن الأحزان، أنا التي قدرت لها الأقدار حياة الأقلية على هذه الكرة الأرضية، بسقف فوق رأسها، وطعام على مائدتها، وملبس يغطي جسدها، وطبابة تحميها، وتعليم يأخذ بيدها في هذه الحياة، تلك حياة متوافرة لأقل الأقلية على سطح هذه الأرض الجميلة القاسية، والتي لم أقدم شيئاً لأستحقها، مجرد ضربة حظ جينية لا معنى أو مغزى أو هدف حقيقي لها. إلا أنني بأنانيتي البشرية، أستشعر أحزاني لب الكون، كما أستشعر الحاجة الملحة أحياناً للحديث ولو المبهم عنها، وحين أنطلق في توصيفها تنفيساً عن نفسي، تجدني أواسي أنانيتي بأنني بحديثي عن أحزاني إنما أردد صدى أحزان بقية «زملائي وزميلاتي» في البشرية، أنني وأنا أروح عن نفسي، أروح عن نفوسهم هم كذلك.
ولأنني أنانية كبشر في كل مناحي وجودي والتي أهمها وأوضحها هو رغبتي البيولوجية في تمرير جيناتي لسلالتي، فقد أورثت جينات استشعار الآلام وطريقة التعامل معها لابنتي، هذه الفتاة الرقيقة التي أراها أحياناً وهي تقاوم بعض آلامها اليافعة فيرتجف قلبي: «بعدك صغيرة با ابنتي، الآتي أكثر وأمر، ما بالك تتفاعلين بهذه الصورة مع الآلام؟» ثم أتذكر أنني المصدر، أنني من أورثتها هذه الحساسية الشديدة تعاملاً وتفاعلاً مع أوجاع القلب، فألوم نفسي وألوم جيناتي وألوم جسدي وأعدني أنني لن أسمح لروحي أن تكون متفجرة التخالط مع «المركبات البشرية» المؤذية الأخرى، لكن تغلبني جيناتي وطبائعي في النهاية، فأغرق في أوجاعي، وأحياناً أتماهى معها حد استدعائها في شكل أعلى درجات الألم حتى أنتهي لأعلى درجات راحة اليأس المريح. دائرة رهيبة هي تلك..
«أرجوك يا ماما، لا أحب أن أراك متألمة» تقول لي ابنتي أحياناً بلا مناسبة، فأنفي التهمة مباشرة «لست كذلك يا حبيبتي، أنا بخير تماماً». «أنت كاذبة ماما، أرى في عينيك غير ما تقولين، وأسمع في صوتك غير ما تعلنين». تصطادني هذه الصغيرة على حين غرة وبلا مناسبة، حين أكون ساهمة في وجع، أو حين أغرق في ذكرى ألم، أو حين أتحدث بحيادية عمن آلموا روحي فوق طاقتها، فتجدها كأنها تلتقط الإشارة مباشرة. لربما هي جيناتي المستقرة في جسدها والتي تتواصل مع الجينات الآخذة في التقدم بالعمر والساكنة في جسدي، هي ما تشي بي وتخبرها بمكنونات قلبي التي لا أكشفها لأحد. «يا ابنتي، إنما الآلام وهم، نستطيع نحن أن نتحكم فيها كما نستطيع أن نتحكم في كل مشاعرنا الأخرى، في الحب والكره والرغبة، كلها تفاعلات كيميائية داخل أجسادنا لنا أن نطبق إرادتنا عليها»، أقول لها وأنا أعلم الناس بكذبي عليها، فرغم فهمي العلمي الخالص لكيميائية كل المشاعر والتفاعلات، إلا أنني أدرك تماماً تهافت الإرادة البشرية أمامها. لو كنت أستطيع، لو كانت لي الإرادة، لخلعت الكثيرين من قلبي بكل إيلامهم، ولحيدت الكثيرين في عقلي بكل تواضعهم، ولتخطيت الكثير من الأوجاع العشوائية التي تهبط بلا تدبير أو إرادة، ولصنعت جداراً حديدياً حول روحي، لأحررها من محيط قاس، ولأسمح لها أن تنعم بالرحمة القريبة، دون الحاجة للمزيد ودون التعرض للكثير.
هكذا هو قدرنا نحن البشر، تأتي حيواتنا في «طرد» واحد، إما تأخذه كله أو تتركه كله، لا يمكن أن تنتقي أو تختار. مع السعادات تأتي الأحزان، ومع الراحات تأتي الآلام، نختلف نحن فقط في مدى طراوة ونعومة أرواحنا، بعضها شديد الليونة حتى لتنطبع عليه الآلام والأحزان بسهولة، وبعضها جامد متيبس أملس حتى لتتزحلق عليه الأوجاع بلا طبعات تذكر. بكل النعم التي وصلتني في هذه الحياة التي لم آت فيها ما يستحق نعمها، فإن تحمل طبعات الآلام والأوجاع لربما هو أهون الأثمان. فقط كل ما أتمناه أن تكون ابنتي أكثر رحمة بنفسها، أن تكون روحها أقوى تماسكاً ولو بالشيء اليسير، حتى يتسنى للأحزان أن تتزحلق وأن تصفو روحها من الطبعات التي لا تزول. يا رب، ارزقها شيئاً من هذه اللامبالاة في هذا الشهر الكريم الفضيل.