كولومبو

تتبعا لموضوع المقال السابق الذي نشر قبل أسبوعين والذي كان يدور حول النظرة الأكثر تنورا للدكتور مبروك عطية للفقه الإسلامي ولطريقة تطبيقه في الحياة اليومية، وذلك قياسا على القراءة الإسلامية العامة العالية الإشكالية والذكورية في رأيي، أتعرض في هذا المقال لأحد المواضيع الاجتماعية الغاية في الأهمية والتأثير في حيوات شركاء الحياة، اتفاقا مع معالجة الدكتور للموضوع، وإن أتت منطلقات المعالجة هذه بالنسبة لي لتكون مختلفة تماما. في عارض حديثه الذي يتكرر في معظم حلقات برنامجه «الموعظة الحسنة»، يشير الدكتور عطية إلى موضوع لطالما جادلت الصديقات فيه اتفاقا مع الدكتور، وهو ضرورة الكف عن ملاحقة الزوج والتفتيش في حياته. وعلى الرغم من أن معطياتنا مختلفة تماما، فالدكتور يرى أن علاقات الزوج، سواء كانت حلالا أم حراما، هي شأنه الخاص ليس للزوجة أن تتدخل فيها أو تحاسبه عليها، وليس لها سوى أن تطلب الطلاق في حال لم يتسع صبرها لعلاقات زوجها، في حين أنني أرى أن التفتيش خلف الزوج قلة ثقة بالنفس وتشويه حقيقي لطبيعة العلاقة بين الزوجين، إلا أن الناتج واحد، لأجد نفسي متفقة تماما مع صرخات الدكتور التي يطلقها بخفة دم متناهية موبخا المفتشات خلف أزواجهن واللواتي لا يتحصلن في النهاية سوى على ورقة الطلاق، على عكس ما كن يسعين إليه، كنتيجة لعملياتهن التفتيشية الفاشلة.
ففي الحوارات الساخنة مع الصديقات، يشرن إلى أنه من المهم أن تبقي المرأة عينيها مفتوحتين عن بكرة أبيهما على الزوج الذي ما إن تغفل عنه زوجته حتى ينكب باحثا عن أخرى، وكأنه أسير غفل عنه سجانه للحظة. عادة ما أسأل هؤلاء الصديقات: ألا تؤسس هذه الفكرة لعلاقة ضعيفة أصلا؟ لماذا ندخل في علاقات غير آمنة لنحيا طوال أعمارنا نلعب أدوار مخبرات سريات؟ هل هذه العلاقات التي تحتاج إلى رقابة مستمرة، محترمة وجديرة ببقائنا فيها؟ أليست القاعدة هي الثقة، والاستثناء هو الشك؟ وإذا كانت القاعدة هي الشك، فلم الدخول في علاقة مهينة برضوخها المتوقع للخيانات؟ الرأي العام يأتي من أن الرجل «مصنوع» بيولوجيا ليخون، وأن واجبنا كنساء أن نمنع «وجود البنزين بجانب النار» لتجنب وقوع الكارثة. هنا، أطرح السؤال الآتي: ما الهدف من هذه المراقبة، وماذا ستفعلن في حال اكتشفتن خيانة من أي نوع؟ عادة ما يأتي الجواب أن الهدف هو إنقاذ البيت وإعادة الأسير إلى القفص. تشتعل اختلافات الآراء حين أخبر الصديقات بأن هذا التفتيش يكون مجديا فقط في حال ما كانت المرأة على قدر الموقف وعلى قدر قرار التفتيش، بأنه إذا ما اكتشفت خيانة تطلب الطلاق مباشرة وتغادر هذه العلاقة المريضة، ففي حين أن معظمهن يرين أن التفتيش يجب أن ينتهي بإعادة الزوج إلى عشه، أصر أنا على أن التفتيش يجب أن ينتهي في حال أتت نتيجته سلبية بحرق العش على من فيه. وعليه، فإن المرأة غير القادرة على أو غير الجادة في اتخاذ هذا القرار، فمن باب أولى أن تخلع عنها رداء كولومبو هذا، وأن تمثل الجهل التام بما يدور ويجري لتحيا حياتها بهدوء دون أن تأتي بموقف للعلن لن تستطيع بعدها أن تعيده للحيز السري الآمن ولا أن تتجاهله بعد أن بات فضيحة مجلجلة.

لا يمكن أن تستقيم حياة يراقب فيها شريك شريكه أو يعلوه مقدارا أو ينصب نفسه وليا أو رئيسا عليه، لا رقابة من امرأة على رجل ولا وصاية لرجل على امرأة.

تعترض الصديقات على أسلوب حياتي الزوجية كثيرا، فأنا مهملة المراقبة، «مفلتة الحبل على الغارب» حسب وصفهن، لا أبتئس أبدا من سفر زوجي ولا من خروجه المتكرر ولا من تبادلاته الاجتماعية مع غيري من النساء، كما هو حاله تجاهي بالضبط. في آخر جلسة نسائية حذرتني إحدى الصديقات: «تأخذين كل المواضيع «ضحكا»، والموضوع ممكن أن «يتطور» بلا وعي منك». الصديقات يعتقدن أن المرأة دوما آمنة الجانب، أما الرجل فلا بد من رقابة ميكروسكوبية عليه، حيث يصررن على أن خيانة الرجل لا تتعلق بجودة العلاقة ولا بقوة المشاعر، خيانة الرجل-هن يؤكدن-قدر لا يمكن الفرار منه، موثّقات الفكرة بالسؤال: هل تضمنين وفاء زوجك؟ فأقول إنني لا أضمن أي شيء في الحياة، ولكن المعطيات والأدلة في صالح العلاقة، فلم أبحث عن المتاعب، ولم أوجع قلبي بمرض الشك وأضيع وقتي في ممارسة ليست عقيمة فحسب، بل مهينة أيضا؟
لا يمكن أن تستقيم حياة يراقب فيها شريك شريكه أو يعلوه مقدارا أو ينصب نفسه وليا أو رئيسا عليه، لا رقابة من امرأة على رجل ولا وصاية لرجل على امرأة، فإذا ما تحققت هذه المعادلة، سيدخل الاثنان في العلاقة كبالغين متساويين وسيبنيانها بالتوجه ذاته، وستكون نسبة نجاحها أعلى بكثير من نسبة فشلها. لن يرضي النصف الثاني من هذا الحديث الدكتور عطية ولا أي فقيه لا يزال يقرأ الدين بعين الماضي الذي صنع من المرأة رعية، كما وأنهم لن يستطيعوا أن يروا كيف أن هذه النظرة الدونية للمرأة وهذه الحقوق المتراكمة للرجل في العلاقة هي بالتحديد ما يخلق الشك الدائم في نفس المرأة والرغبة العصابية المستمرة منها للبحث في حياة شريكها الذي تعطيه القراءة الدينية حقوقا وسلطة وقوامة ليس للمرأة أي درجة منها. إلا أن إعجابي بالدكتور وبأسلوبه المصري المحبب الآتي من عمق المجتمع وبقراءته التجديدية، العرضية النسبية، عالية المنطقية، قائم رغم كل الاختلافات، فأجدني أصل وإياه إلى العديد من الاستنتاجات الاجتماعية المتطابقة التي لو طبقها الناس لاستراحوا وأراحوا كثيرا. لا تفتشن خلف أزواجكن، سيداتي، فيما لو ما كنتن ترمين لاتخاذ قرار صارم حال اكتشاف الخيانة، فهو إن كان مخلصا ففي التفتيش مضيعة وقت، وإن كان خائنا ففي التفتيش فتح باب تبعات لربما أنت لست قادرة على آلامها. من باب أولى، لا ترتبطن بمن لا يستحق ثقتكن الكاملة التامة، ففي هذا الارتباط المتشكك أوجاع تملأ حياة كاملة، أبعدها الله عنكن وحفظكن.