يعرض موقع «شاهد نت» فيلماً وثائقياً جيداً عن الراحل المفكر الرائع دكتور فرج فودة، يستعرض فيه مسيرته العلمية والفكرية والأحداث الأخيرة التي أدت إلى اغتياله على أيادي اثنين من الشباب الذين، حسب تصريحات أحدهم، لم يقرأوا كتب فودة أصلاً. كانت تلك فترة زمنية شرق أوسطية حامية الوطيس )ومتى كان الشرق الأوسط هادئاً أصلاً؟) حيث كان للثورة الإيرانية تحديداً والتي تداخلت زمنياً، وبلا شك سياسياً، مع حكومة ريغن المسيحية المحافظة، تداعيات شديدة التأثير على العالم عموماً وعلى الشرق الأوسط خصوصاً.
ارتفعت نسبة أعمال العنف وقتها، وتوالت التفجيرات ومحاولات الاغتيال في العالم العربي ككل، وفي مصر تحديداً، لربما بتحفيز نفسي من الثورة الإيرانية وبتشجيع فعلي من الإخوان المسلمين، الذين كانت تحركاتهم «العسكرية» في تلك الفترة تخلو من المروءة تماماً، فلا أبشع ولا أرخص من الاغتيال العلني رمياً عشوائياً بالرصاص، والذي يعلن العنف وسيلة على الملأ كأنه إعلان حرب.
ولقد كان فرج فودة مهدداً باستمرار ومنذ بداية نشاطه، إلى حد أن اتخذت الحكومة المصرية العديد من التدابير الأمنية حوله ومما غير ديناميكية حياته الاجتماعية والأسرية، إلا أن الجهل والتخلف اللذين ولدا عنفاً إرهابياً بشعاً لم يعدما حيلة في الوصول إليه والتخلص منه.
ولقد أتى الفيلم الوثائقي على ذكر كتاب الدكتور فودة «الحقيقة الغائبة» الذي هو أحد أكثر كتبه قوة وجرأة، في تقييمي. كل سطر في هذا الكتاب حجة دامغة، لا أتصورها سوى أن تزيد من درجة الحرج «الإسلامي السياسي» الذي لم يكن يستطيع رداً ولا يملك حجة على استدلالات فودة المنطقية والتاريخية، مما دفع به؛ أي هذا التيار، إلى النزوح للعنف كرد فعل تنفيسي وكأسلوب مقاومة لإخماد صوت الحجة حفاظاً على مصالحه ومكتسباته وصلابة تماسك جماعته واستتباب طاعة ورضوخ كل أفرادها.
وقد كتب فودة في «الحقيقة الغائبة» قائلاً:
إن قواعد الدين ثابتة، وظروف الحياة متغيرة، وفي المقابلة بين الثابت والمتغير لا بد وأن يحدث جزء من المخالفة، ونقصد بالمخالفة أن يتغير الثابت أو يثبت المتغير، ولأن تثبيت واقع الحياة المتغير مستحيل، فقد كان الأمر ينتهي دائماً بتغيير الثوابت الدينية، وقد حدث هذا دائماً منذ بدء الخلافة الراشدة وحتى انتهت. وتغيير الثوابت هو ما نسمية بالاجتهاد، وقد اتفقنا على أنه ليس مطلقاً، ولكنه قائم ومتاح…(70)
إن هذا المنطق الحاسم الذي يتعامل به فودة مع الرأي الآخر لا يتسبب في «غيظ» أصحاب الحجة المهزوزة المقابلة فقط، ولكن كذلك في تسلل خوف عميق إلى قلوبهم من فقدان سلطتهم المحكمة على عقول وحيوات الناس والتي هي، أي هذه السلطة، مفتاح كل «الإنجازات» والمكتسبات. بالتأكيد هناك بين الجماعات المتطرفة والإرهابية من يؤمن تماماً بأخلاقية ونبل مقاصده، وبأن العنف مبرر ومغفور وربما مستحب دينياً لتحقيق هذه المقاصد، وبأن الوسائل العنيفة تبررها الغايات النبيلة التي هم جازمون بنبلها، إلا أن الصراع الأكبر المتخفي خلف الصورة الدينية هو حقيقة صراع سلطة ومال وتحكم في مصائر ومقدرات وجهود الملايين من البشر. الدكتور فودة كان يعكس هذه الفكرة في كل سطر من سطور كتاباته، كان يبدي فهماً عميقاً لسيكلوجية الإنسان العنيف والمتطرف والإرهابي، وهذا أكثر ما كان يثير الحنق والغضب والذعر، حنق وغضب وذعر تجلت كلها في أرخص الصور تجاه الدكتور، طلقات عدة اخترقت جسده محققة نزيفاً سريعاً مستمراً أفضى به في وقت قصير إلى الوفاة.
ولقد تناول كتاب الدكتور فودة «الحقيقة الغائبة» العديد من المواضيع غاية في الحساسية والخطورة، مستعرضاً مشاكل عميقة وماضي استشكالياً جداً في تاريخ الأمة الإسلامية، وهي «المكاشفات» المستحقة تماماً إذا كنا لنستوعبها ونتعلم منها تفادياً لأخطاء المستقبل، كما يوعز الدكتور فودة نفسه في أكثر من موقع من كتاباته. لقد تناول الدكتور فودة الواقع السياسي مثلاً إبان مرحلة الخلافة الراشدة، ومعنى أن يتوفى ثلاثة من الخلفاء الراشدين مغدورين وتداعيات ذلك على المشهد السياسي اللاحق، كما أنه لم يرحم المراحل الأموية والعباسية اللاحقة فحصاً وتحليلاً ونقداً، وهي الكتابات التي تفتح الأعين بإسقاطاتها على واقعنا الحالي، هي المثال الأوقع على الكيفية التي يبني بها الماضي الحاضر ويشكله.
ينتهي دكتور فودة إلى التهوين على القارئ قائلاً:
ما على القارئ من بأس لو انزعج، فالانزعاج للحق مكرمة، وأن تنزعج للحق فهذا أفضل كثيراً من أن تنبهر بالباطل، وجزء من هذا الانزعاج مرجعه إلى ما ذكرناه في بداية الحديث، وهو أن النفس تهوى أن تقرأ ما تحب أن يكتب لها، وتعشق أن تسمع ما تهوى أن يقال لها، بصرف النظر عن موقعه من الحق أو موقفه من الحقيقة. (139)
تلك هي معضلتنا مع مفهوم الحرية وتعدد الآراء، فنحن لا نستطيع تحمل «الانزعاج» لربما لأنه يشكل لنا أكثر من مجرد انزعاج، هو يشكل نقلة نوعية في تفكيرنا، يتطلب منا مراجعة أفكار متجذرة وتغيير أسلوب النظر للأمور، وتلك مهمة صعبة، تتطلب تدريباً طويلاً مستمراً كذلك الذي تحصل عليه الغرب ليصل اليوم لهذه المرحلة من «التسامح» الفكري. نحن لم ننل التدريب المطلوب، ولا يبدو أننا نود التحصل عليه، وحتى مع انفتاح الرأي من خلال وسائل التواصل، مازالت كراهية «الانزعاج» واضحة ومتحققة أكثر ما يكون من خلال القضايا الكثيرة التي يرفعها الناس على بعضهم بسبب رأي أو نقد أو سخرية أو حتى قسوة تعليق.
«الانزعاج» الغربي يولد سلسلة ضخمة من الأبحاث والكتب التي «يتراشقها» الغربيون في حربهم الفكرية التي يدركون تمام الإدراك أنها حرب لا ينتصر فيها أحد سوى العلم، ولا تزيد من شيء سوى من غزارة التفكير والفهم. «الانزعاج» الشرقي قصته مختلفة، لا نفس طويل له، ولا أبحاث وكتب ومقالات وتبادلات فكرية تستوعبه، «ضرب على طول، مفيش حتى شتيمة».