يرتجف أطفال غزة الناجين من القصف، يرتجون ارتجاجاً عنيفاً على أسرة المستشفيات الملطخة بدماء مختلطة المصادر أو على أرضياتها الباردة المفترَشة بالأجساد أو على أيادي غرباء يحملونهم بعد أن غاب كل من يعرفون تحت الأنقاض. يرتج أطفال غزة ومعهم ترتج الإنسانية بأكملها، وتلك ليست جملة تعبيرية كليشيهية، إنما هي جملة تعبر عن أزمة فكرية وجودية يمر بها كل من بقي لديه شيئ من تلك الإنسانية المتحدث عنها.
أن يشهد العالم مذبحة علنية، أضواء قنابلها تسد عين الشمس وأصوات صرخات مدنييها تصم الآذان دون أن يتخذ خطوة حقيقية لإيقاف هذا الاعتداء الفاجر، فتلك إشارة مرعبة للإنسانية في مفهومها وحقيقتها. أن يشن جيش كامل بعتاده الذي توفره وتموله كبرى حكومات العالم حرباً طاحنة على أطفال، فيتساقط أكثر من سبعة آلاف منهم في غضون شهرين أمام العالم أجمع دون أن يستطيع هذا العالم بملياراته السبعة من البشر أن يصد هذا الجيش ويمنعه، فتلك إشارة مرعبة للإنسانية في نوعية مشاعرها وفاعلية فلسفتها. لقد اتخذت الإنسانية منعطف خطر ووعر ومخيف مع هذه الحرب القائمة على غزة، أظهرت فيه هذه الإنسانية “ألوانها الحقيقية” كاشفة عن مقاييس مرعبة يفترض أن تهبط بها من منزلة الإنسانية إلى منزلة البشرية الداروينية، من قيم الخير والعدالة والسلام والأمان وحماية الضعيف، إلى مبادئ الغاب التي يأكل قويها فيها ضعيفها.
جريمة الإبادة القائمة في غزة ليست الأولى في تاريخ البشرية، فلطالما تلطخ التاريخ البشري بدماء الأبرياء تحت تأثير الأطماع والرغبات والعنصريات والجشع والطمع وأحياناً الرغبة البدائية المتوحشة المزروعة في جنس الهوموسيبيان بالقتل. إلا أن وصول البشرية إلى القرن الواحد والعشرين مصحوبة بتطورات فلسفية وفكرية وأخلاقية أنعش في وعينا الاعتقاد بأننا الآن وبلا شك قد انتقلنا من منزلة البشرية المتصارعة على البقاء إلى منزلة الإنسانية المتنافسة على التطور وعلى تهذيب سلوكيتها وتشذيب مبادئها وقيمها. لربما تركنا خلفنا، على أعتاب القرن الجديد، كل توحشنا وعنصرياتنا وأفكارنا القديمة البدائية الغبية، لربما وصل إلى وعينا أن المصلحة الكبرى ستتحقق باستتباب السلام وإقامة العدل، ذلك أنه وعلى حين أن الظلم قد ينفِّع مرة، إلا أنه سيعود مجدداً ليلتهم الظالم مرات عدة، فهذا هو قانون الطبيعة الساعية لموازنة نفسها بنفسها. ولكن، يبدو أن شيئاً من هذا لم يتحقق..
أزمة اليوم، الشخصية والجمعية على ما يبدو، هي أزمة وجودية إنسانية كاملة، هي أزمة مراجعة اعتدادنا وثقتنا بجنسنا بتحضره الفلسفي وتطوراته السياسية السلوكية، هي أزمة مراجعة حقيقية وفاعلية تأمين أنفسنا وأرواحنا تحت مظلة القوانين الدولية لمنظمة الأمم المتحدة والمفاهيم الإنسانية الحقوقية الحديثة التي يفترض بها أن تحمينا وتؤمننا جميعاً، أن تمنع تجبر القوي على الضعيف واعتداء القادر على العاجز، أن تنهي تماماً وإلى الأبد الكيانات والسلوكيات الاستعمارية وما يصاحبها من اعتقال وتعذيب وتنكيل واغتصاب واعتداء وقتل أطفال ومسح مدن وحرق كتب وتصفية علماء وهدم آثار وإبادة شاملة كاملة. أزمة اليوم هي أزمة قسرنا على مشاهدة جسد وروح البشرية العاريين القبيحين، على مراقبة أفعال بني جنسنا ونتاجها أمام أعيننا، بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، لحظياً، تفصيلياً، دون تورية أو تجميل، فماذا سنفعل بكل هذه الحقيقة، وكيف سنتعامل مع كل هذا القبح والشذوذ النفسي والإنساني؟
لطالما كنت أعتقد بالمذهب الليبرالي للخير المتأصل في الإنسان والشر الطارئ عليه، ولكن هل كان هذا المذهب الفلسفي مجرد ضمادة تريح بها البشرية نفسها من جرائمها أم أنه مجرد أمل تأمله ولا تستطيع، بسبب من تركيبتها الجينية والنفسية، الوصول إليه؟ المؤكد أن مذبحة غزة أعادتنا لنقطة الصفر، للمنطق البدائي لإنسان الكهف، المؤكد أنها أدخلت كل من له شعور وعقل في أزمة وجودية حقيقية تسائل الطبيعة البشرية بإنسانيتها المزعومة وخيرها المدعى، أزمة تراجع الحضارة البشرية بتنظيماتها العالمية التي يفترض أنها تحمي الجميع وتدفع الاعتداءات وتستقر بالأمن والعدالة بين الناس. ما يبدو الآن أن كل هذه الادعاءات بالتحضر والإنسانية ما هي سوى كذبة، كل الإنجازات كذبة، كل التقدم الفلسفي والتقنين الأخلاقي كذبة. نحن لا نزال هناك، في كهف بارد كبير، يأكل فيه القوي الضعيف، ويعتدي فيه القادر على العاجز، ويُعتدى فيه على المهزوم من أجل متعة حيوانية، ويُنحر فيه الأطفال على وجبات الطعام. غزة تخبرني أن لا أمل فينا ولا مرتجى من جنسنا المتوحش العنيف. أنا في نفق هذه الأزمة الوجودية دون أي بصيص نور يُخرجني منه، فأين أنتم اليوم؟