كفتة

انتشرت وعلى نطاق واسع صورة من بعض حيثيات حكم تغريم باسم يوسف وشركة كيوسوفت مبلغ 100 مليون جنيه، وقد جاء فيها الآتي: «إذا كانت البرامج الساخرة منتشرة في الدول المتقدمة، ففضلاً عن أنها هادفة وبناءة ولا تنحدر إلى حد الإسفاف أو التجريح أو الإيحاءات الجنسية، فإن تأثيرها على شعوب تلك الدول يكاد يكون منعدماً لرسوخ قناعاتهم وثباتهم على مبادئهم وتوجهاتهم السياسية التي يصعب النيل منها أو تغييرها». في الحقيقة، لا أدري أي برامج دول متقدمة تشاهد هيئة التحكيم التي أدلت بهذه الحيثية، فالبرامج النقدية الأشهر والأهم في التلفزيونات الأوروبية والأمريكية فعلاً لا يرد فيها إيحــــاء، هناك إشارات مباشرة وغليـــظة الكلمات لا يردعها رادع في بلدان «متقدمة» لا يعلو فيها شيءعلى حرية الرأي ولا قداسة فيها لشيء أكثر من قداسة حرية الإعلام والصحافة. وفي حين ان الإسفاف والتجريح يدخلان في نطاق الرأي في الواقع، فما يبدو إسفافاً عند عمرو قد يبدو عادياً عند زيد، إلا أن برامج الدول المتقدمة لا تخلو منهما وهناك برامج قائمة بأكملها عليهما، وللمشاهد حرية أن يختار الرديء من الجيد، والتقييم متروك للشعب وليس لماما حكومة.
ان كنت تدري وتكذب فتلك مصيبة، وان كنت لا تدري فالمصيبة أعظم، من الأفضل دوماً التيقن من المعلومة قبل وضعها في حيثية حكم يمثل الدولة بأكملها. ومع ذلك، فإن المشكلة الأكبر تأتي في الجملة التي تليها، ليس فقط في خطأها الواضح للعيان، ولكن في تضمينها استهانة بالشعوب العربية والشعب المصري التي ما عاد لها أن تحتمل المزيد من الإهانات. ففي «الدول المتقدمة» يمكن لبرنامج شهير أن يقلب الموازين ويغير التصويت في آخر لحظة ويقدم ويؤخر في المواقع بشكل يفوق التصور، وأي متابع بسيط ليس للبرامج هذه ولكن لبعض الأخبار عنها يعرف ذلك. عموماً هذه المعلومات المغلوطة التي لربما شكلت فضيحة في «الدول المتقدمة» أصبحت طبيعية عندنا، حتى عندما تأتي على لسان أهم الهيئات السياسية في البلد، فمن بعد قصة اللواء الذي يأخذ الأيدز ويحوله «لصباع كفتة» لا يوجد شيء يمكنه أن يصدمنا، لكن يكون موتا وخراب ديار؟
ألا يكفي أن المعلومة كلها مغلوطة حتى تتضمن استهانة ببلد كامل مثل مصر يهز أمنه وتوازن شعبه برنامج تلفزيوني أوحد؟ نعم يمكن للبرنامج أن يؤثر في الرأي العام وبالتأكيد يمكنه أن يغير من أفكار الناس ومواقفهم، لكن يهز أمن الدولة ويهددها، فذاك لعمري استصغار للدولة والشعب الذي يرمي القضاء حمايتهما.
ثم كيف يأتي حكم من هيئة قضائية عليا في البلد بمقارنة ومقارعة مثل هذه؟ هـــل تبنى الأحكام على «شوفوا جارتي عملت ايه؟» هذا حكم قضائي يبنى على قوانين البلد وتأثير الموضوع المطروح وليس على المقارنة مع الدول الأخرى والتي لم تأت في صــــالح الحكم أولاً ولم تحافظ على احترام الشعب في مضامين هذا الحكم ثانياً.
طريقنا طويل حتى نتفهم معنى حرية الإعلام وحرية الرأي والتعبير. الكثير من الناس يعتقد أن الحرية حق «يتمتع» به في حين أنها في ربعها فقط حق ومتعة، أما ثلاثة أرباعها فحمل ثقيل يحمله «الإنسان المتقدم» على كتفيه ويعاني منه ما يعانيه. فالحرية لا تعني فقط أن تقول ما تريد، ولكن أيضاً أن تتحمل سماع ورؤية ما لا تريد والتعايش معه، هذه هي الحرية الحقيقية، هي لا تتجلى في موافقتك على ما يروقك ولكن في احتمالك لما يؤذيك ولا يروقك.
تدفع شعوب الدول المتقدمة الثمن عن طيب خاطر، لأنها تعلم قيمة الربع الذي ستحصل عليه، فكل إنسان «متقدم» يعلم أنه لكي يقول ما يريد ويعيش بالطريقة التي يريد عليه أن يفسح المجال للآخرين ليفعلوا الشيء ذاته، وهذا إفساح مؤلم يعرضه لما لا يحب، ولكنه ثمن بخس أمام الحصول على ما يحب.
النقد القاسي والسخرية هما رأي يجب أن يكون لهما الحرية والقداسة ذاتهما. الشعوب المتقدمة تعي ذلك، فتجد أن نفسها طويل وحساسيتها منخفضة، أما نحن فأقل القليل يؤذينا، نفسنا قصير وحساسيتنا مرتفعة، كل كلمة تجرحنا وكل نقد يهيننا وكل سخرية تغتال من كراماتنا، وهكذا هي «الشعوب المتأخرة» قليلة الثقة بنفسها، كثيرة العويل، شديدة الغضب. اليوم السخرية الشديدة هي سلاح الرأي الأمثل في الدول المتقدمة، هي ما يضع المسؤولين أمام أنفسهم ويجعلهم يمشون على أطراف أصابعهم، هي ما يضبط الوضع أكثر من ألف قانون وألف شرطي بألف من أسلحتهم. نعم السخرية موجعة ولكنها الدواء الأمثل لمعالجة العيوب الذاتية حين يعرف الجميع أن لا أحد فوق النقد، وأن لا سلطة فوق سلطة الرأي. وتبقى سخرية القدر في أن يغرم باسم يوسف ويتهم بالإسفاف والتجريح والإيحاء ويستمر برنامج توفيق عكاشة.