رفع رأسه باتجاهي حين تبدت لنا دقائق جمعتنا في مكتب بيتنا بين انشغالي في مجموعة مقابلات متتالية تصادفت كلها مع بعضها خلال أيام قلائل، وقال ضاحكاً: “إذا أتاك السؤال ذاته في المقابلة القادمة حول سبب عدم ترشحك للانتخابات، قولي زوجي غير راض”. تحركت “فراشات معدتي” كعادتها حين يلقي بدعاباته التي تهدف لإغاظتي، ووعدته مؤكدة، “في أول مقابلة مقبلة سأفعل”. أطلق ضحكة من ضحكاته القصيرة الخافتة التي يرمي بها لأن يقول إنه يعرفني أكثر من نفسي ويحفظ ردود فعلي عن ظهر قلب. ولأن لي قلب فراشة وسلوك طفلة حين يرتبط الأمر بهذا الرجل، أتى الرد تحديداً كذلك في المقابلة التالية، حين سألتني المذيعة اللطيفة الأستاذة سميرة عبدالله عن سبب امتناعي عن الترشح للانتخابات: “زوجي لا يرضى”. بين ضحكاتنا علقت المذيعة على غرابة رد “النسوية” صاحبة الرأي المستقل ورددت أنا بأن هذا الرد هو وعد أوفيه لزوجي، في حين أنه كان في الواقع تحد طفولي مني له.
حين عدت من المقابلة استقبلني ضاحكاً: “فعلتيها؟ أخذت الموضوع جد؟” “أكيد”، كان ردي قبل أن أضيف قائلة “كنت تنتظر أن أخسر التحدي؟” أطلق هو ذات الضحكة القصيرة الخافتة، فلطالما كان يجد تحدياتي الساذجة الطفولية لطيفة وغاية في الكوميدية. هذا “كود” بيننا، نتبادل من خلاله غزل لربما نشعر أننا كبرنا على صياغته بالكلمات، أنا أناكفه، وهو يقابلني بالضحكة الدافئة الودودة، كأنني أسأله إن كان لا يزال يهتم بي، فيجيبني هو بلا كلمات: نعم أحبك. أقيس رضاه بابتساماته، أختبر محبته بتجاهله لكل مناكفاتي وتحدياتي، يتركني أناكفه وأجادله وأقول قولاً كثيراً، ليرد بابتسامة، أو ضحكة خافتة عميقة، كأنها تتشكل في روحه وبالكاد تظهر على وجهه، فأعلم أنه لا يزال راض، لا يزال محب، فيحل السلام في قلبي وروحي.
وكما كان الوضع في المحيط الغربي إبان النصف الأول من القرن العشرين، لا يزال عندنا من يربط النسوية بالتحدي الدائم، بحالة معركة مستمرة، بل بالغياب القسري للهدوء في المظهر والجوهر، مما جعل كل التعليقات حول المقابلة تنصب على هذه المزحة من حيث معناها ودلالاتها النسوية. من عارض الحوار بدا وكأن الغالبية تعتقد بتناقض القوة النسوية ورقة التعامل ودفئ المحبة ومتعة الشعور برضا من نحب. من قال إن القوة تكمن في تجاهل رضا الحبيب، في أنانية التصرف، في غلاظة القول والفعل؟ لا يجب أبداً أن ترتبط قوتنا النسائية بالقسوة، فأن تكوني نسوية قوية ومدافعة حديدية عن حقوقك كإنسانة لا يعني ذلك الحرمان من رقة المشاعر، لا يعني التصلب في الموقف والتصادم المستمر مع من نحب. بل أن رقة المعاملة وطلب رضا المحبوب وتدليل مشاعره لربما كلها دلائل على قوة الشخصية والراحة الحقيقية الداخلية مع الموقف النسوي، موقف حقيقي راسخ لا يحتاج لغلاظة أو تصادم لإثباته.
ولقد تضمنت الموجة الثالثة من الحركة النسوية حركات فرعية تهدف لتحرير المرأة من صرامة مفتعلة تثبت بها نسويتها أو من تمسكها المفتعل بالنمط الذكوري في المظهر والسلوك لتثبت بهما قوة إرادتها، فأتت بعض الحركات لتؤكد أنه يمكنك أن تكوني نسوية قوية وترتدي فستان مليئ بالورود على سبيل المثال. لا تحتاج المرأة لإجبار نفسها على مظهر أو سلوك، خصوصاً التقليدي الذكورة، والذي قد يكون على غير ما ترغب به أو مخالف لطبيعتها الشخصية، فقط لإثبات قوة إرادة أو لإرسال رسالة بالمساواة. العدالة والمساواة لا يتحققان بتقليد “الفئة الأقوى” ولكن بالتصرف الحر الطبيعي الذي لا يخشى أحكام الآخرين أو لومهم.
لذا ورغم أنني مؤمنة متطرفة بالحراك النسوي وبالكثير من نظرياته الحديثة بعيدة المدى، إلا أن ذلك لم يتحول في يوم إلى عقدة إثبات موقف، لم يستدع استحضار القسوة أو التحدي ولم يقسرن على حرمان نفسي استشعار العواطف الرقيقة أو السعي الحقيقي خلف رضا من أحب. إن كنت أحبه فهو يستحق، إن كان يستحق فما المعيب في أن أسعى لمحبته ورضاه؟ النضال، أي نضال، لا يستوجب القسوة، بل لربما يستدعي عكسها، فالمشاعر الرقيقة وحسن المعاملة يجعلان الفرد أكثر إنسانية وبالتالي مناضل أفضل وأكثر حساسية تجاه مشاعر وآلام واحتياجات الآخرين.
على كل وجبة يسعفني الوقت أن أطبخها، أحب أن أخبز له خبيزاً حاراً، أن أزين له الطاولة بطقم أطباق متناسق، ثم أن أمنعه من المساهمة في إزالة الأطباق من الطاولة. أحمل له شايه الساخن على صينيته الخاصة التي يفضل إلى مكتبه، أجلس على الكرسي مقابله، أنتظره يخبرني برأيه في صنع يدي، أترقب الابتسامة، أستعجل التعليق الهادئ لأبادره بمناكفتي. هكذا تتبدى لي نسويتي في أزهى صورها وأكثرها أريحية، حين لا أفتعلها، حين أبقى أستشعر وجودها وأثرها في نفسي وأنا على طبيعتي تماماً دون قسوة على نفسي أو الآخرين، حين أحب من يستحق وأعبر له كيفما أريد دون أن أقيس قيمة ومعنى هذا التعبير سياسياً، حين أعلنها على التلفزيون المحلي: “يستحق أن أتبع رأيه وأسمعه” باختياري وانطلاقاً من قناعاتي لا رغماً عني. أنا في أزهى مواقفي النسوية حين أكون أكثر صدقاً مع نفسي وتحريراً لها في مشاعرها وسلوكها.
أي حراك نسوي يتوقع من المرأة مظهر أو سلوك معين، أو يعزل امرأة لالتزامها عاداتها وتقاليدها أو لتدينها أو التزامها عقيدة معينة بمحض اختيارها لا يعد حراك نسوي حقيقي، حيث تنتفي عنه هذه الصفة في اللحظة التي ينفي هو بها عن المرأة حريتها وحقها في الاختيار حتى وإن كان اختياراً محافظاً تقليدياً. الحراك النسوي، الذي هو حراك إنساني أعم وأشمل، تَعَلَّم من تاريخه ومراحله، تخطي سذاجته المظهرية التي سيطرت عليه لسنوات قليلة من الزمان وأفكاره الأيديولوجية المتصلبة التي، بقصد أو دونه، عزلت مجموعة من النساء، ليتحول اليوم إلى حراك إنساني بحت، يقيم المرأة كإنسان خالص ولا يعتمد الرجل مقياساً للحقوق والحريات التي يجب أن تسعى المرأة إليها. الحراك النسوي اليوم لا يمكن أن يكون حقيقياً بلا إطلاق تام لإرادة المرأة، احترام تام لخياراتها مهما اختلفت في المظهر والجوهر عن المتعارف عليه في أوساط التحرر النسائية، وتحرير تام لمشاعرها ولطريقة تعبيرها عن هذه المشاعر. الحراك النسوي اليوم هو حراك إنساني شامل متكامل، لا تنفصل فيه القضايا الإنسانية ولا تفرز كنسائية وغير نسائية، كل حراك ضد العنصرية والتمييز والظلم والقهر هو حراك نسوي، فمن تقف في صف المرأة ولكن ضد أقلية أخرى تعاني تمييزاً بأي صورة أو شكل، هل ليست نسوية ولا تنتمي للحراك أو لفلسفته مطلقاً.
لا تخشي سيدتي التعبير عن نفسك، لا تخشي ارتداء فستانك الوردي إن كانت تلك رغبتك ولا تترددي في ارتداء حذاءك عسكري الصيحة إن كان هذا هواك. لا تساءلي نسويتك إذا أردت تدليل شريكك، فالنسوية حركة إنسانية، التعبير فيها عن المشاعر، بأي صورة تودينها، يزيدها ولا ينتقص منها. قولي أحبك، تدللي بالطرق التقليدية، أظهري لحظات ضعفك، أطلبي المحبة والرضا، ففي هذه الأريحية والطبيعية كل القوة، كل السعادة.10