قفا الدولة

الحياة هي ما نصنع نحن من مواقف، ما نخلق من ظروف لأنفسنا ولبعضنا بعضا، كلنا بشر، كلنا نمر بلحظات أسى نحتاج فيها لقلب يتكئ عليه حزننا، لحظات ضعف نحتاج فيها لساعد يسندنا، متوقع أن تدفعنا هذه التجارب المشتركة للحنو على بعضنا بعضا، لإيجاد سبل للتخفيف، للبحث عن طرق لنشر الأمان وكفل الحقوق وحفظ الكرامة، متوقع أن نتألم عندما نشهد غيرنا يتألم، ذلك أننا نتذكر الشعور، متوقع أن نتعاطف عندما نرى غيرنا يبكي، ذلك أننا نتشارك في الدوافع، هي إنسانيتنا التي تجمعنا، تجمعنا في التجارب ذاتها، العواطف ذاتها، الآمال والآلام ذاتها.

لربما عند الحديث عن موضوع البدون، يستوجب الحديث عن مشروع دولة، عن خطة حكومة، عن استراتيجية مؤسسة، لكنني لن أتحدث عن كل ذلك، فتلك غائبة عن أمور الكويتيين، فكيف بها تحضر في أمور المغتربين في بلدهم؟ هي تائهة عن كل جوانب حياتنا، نحن الطبقة المطمئنة، فمن أين لها أن تجد طريقاً إلى حيوات المستضعفين؟ لذلك سأتحدث عن الحالة الإنسانية البيولوجية، عن التواصل النفسي، عن التقارب الوجداني، أين كل هذه من القائمين على قضية البدون؟ حقيقة أنا لا أفهم الكثير من قرارات الدولة وخطواتها تجاه القضية، فما يحدث ليس في مصلحة أحد، لا دولة ولا حكومة ولا كويتيين ولا بدون ولا الجهاز المركزي ولا السيد صالح الفضالة ولا محكمة الأنساب ولا إدارة الهجرة ولا التعليم الخاص ولا وزارة الخارجية ولا أحد، ولا حتى عتاة العنصريين في البلد، لذلك، أنا لا أكاد أرى الغرض من العنف القراري في قضية البدون، لا أكاد أفهم أي سبب خلف ذلك سوى أنها عنصريات مزروعة عميقاً، كراهيات متحفرة في داخلنا، تقسيمات خطت بقسوة دموية على أرواحنا، حتى فاقت جميعها نزعاتنا الإنسانية، تغلبت على غريزة تعاطفنا الإنساني حتى دفنتها عميقاً في نفوسنا، حيث لا نجد لها “طريق جرة”.

وحتى نأتي الطريق من آخره، سأقر بما يقر به أعتى المخالفين والمختلفين، هناك متسللون، هناك غير مستحقين، هناك مدلسون، وبعد؟ ماذا غير ذلك؟ وكيف يبرر وجود هذه النوعية من البشر، التي لم تفعل ما فعلت أصلاً من تسلل وتدليس إلا لظروف حياتية قاسية كانت تحياها، كيف يبرر ذلك الإجراءات التي تتخذها حكومتنا في “عدم” حل قضية البدون؟ وأخيراً، في آخر صرعة للحلول الحكومية، تطل علينا ورقة إقرار وتعهد من “مقيم بصورة غير قانونية”، كونت له الدولة جهازاً وصرفت له بطاقات، لكنه مقيم بصورة غير قانونية، كيف تمشي؟ الله أعلم، المهم أنه إقرار وتعهد بأن الجهاز المركزي “وكل العاملين فيه، لم يدخروا جهداً في تقديم كل المساعدات الممكنة”، وأن من يأتي تصرفاً من خلال استخدام وسائل التواصل الاجتماعي أو المظاهرات أو غيرها يقول عكس ذلك، (هذا المعنى الضمني في الورقة)، وعكس ذلك عرفته الورقة على أنه سبّ وقذف وإخلال بالنظام وارتكاب فعل يؤثر على سمعة الكويت، فإنه يتحمل المسؤولية القانونية. هذا وتبين من خلال التواصل مع المعنيين، أن من يرفض التوقيع على هذا التعهد يحرم من البطاقة الأمنية التي، وحدها على الرغم من ضعفها والإقرار المكتوب على ظهرها بأن ليس لها صفة رسمية، تسير حياته.

في بلد يتزين على أنه مركز إنساني، بلد يتفاخر ببودرة خدود إعلائه الحقوق، وبماسكارا حفظه للحريات، لربما هذه الورقة لا تتناسب والوجه المليء بالمساحيق الذي نود أن نظهره للعالم، ولكن ليست هذه قضيتي اليوم، فقد يئسنا الحديث عن التناقض بين وجه الدولة وقفاها، قضيتي هي هذا التواصل الإنساني الغرائزي، هذه الوصلة بيننا كبشر، الخوف والقلق والأمل والألم، لابد أنها لدى القائمين على الجهاز المركزي العاملين في مبناه الفاخر في وسط المدينة كما هي لدى المقيمين في بيوت الصفيح في تيماء. فإذا تركنا مبادئ الحرية وحق التعبير، وإذا أزحنا الأهمية المنطقية للشكوى والتنفيس بالنسبة إلى هؤلاء المضطهدين، يبقى لنا هذه الوصلة الإنسانية الأخيرة، وصلة تعاطف بحت، وصلة رحمة وشفقة، كيف قطعتها الحكومة وجهازها المركزي وهما بشر مثل البدون تماماً بهذه الورقة؟ كيف يستطيع موظفو الجهاز، وبوجه مبتسم وضمير مستريح، طلب التوقيع على الورقة؟ وكيف يشعرون وهم يرون الآخر أمامهم مكسوراً يوقع عقد خرسه؟ أنا عاطفية وأدعو للمثالية وحمقاء لا أفهم في السياسة، ولا أفقه شيئا عن طبيعة البشر، طيب أحد يفهمني!!