أن تعمل في قضية إنسانية لإيمانك بها هو إشباع للروح واستجابة لغريزة البقاء، ولكن أن تعمل في قضية إنسانية لإحساسك المباشر بأصحابها بالإضافة إلى إيمانك بها، ذاك بعد آخر للعمل مشبع بعاطفة هي أشد ما يحتاجه العمل الإنساني. ولقضية معتقلي غوانتنامو بعد مبدئي واضح يستلزم إغلاق هذا السجن المتوحش الذي يفرض سلطته الفاحشة ليس بقوة القانون، إنما بقوة «الذراع» التي تهبط بالبشر من الدرجة الإنسانية الرفيعة إلى تلك المتوحشة التي تعتاش على فكرة أن «أقوى المنطق دوماً ما يستسلم لمنطق القوة» كما عبر عنها الشاعر الفرنسي الرائع جان دو لافونتين.
ولكن، لقضية غوانتنامو بعد شخصي بالنسبة لي بعد أن بدأت العمل المباشر بها مع السيد خالد العودة، رئيس لجنة المعتقلين الكويتيين في غوانتنامو، ووالد فوزي العودة، أحد آخر اثنين معتقلين كويتيين في غوانتنامو بجانب فايز الكندري، والدكتور غانم النجار رئيس مركز السلام والناشط الحقوقي المعروف في الكويت.
للقضية أبعاد رئيسة: أولها البعد الإنساني الرافض لشريعة الغاب التي يدار بها موضوع المعتقل ويعامل بها مسجونيه، وثانيها الوطني الرافض لاحتجاز اثنين من أبنائنا الكويتيين، وكما يتسرب لنا الآن من أخبار، لمدى الحياة ودون أي فرصة في التقدم للمحاكمة، وهو ما يجب أن يثير الكرامة الكويتية أمام العالم أجمع، وبالنسبة لي، للقضية بعد ثالث شخصي تمحور وتطور في نفسي بعد العمل مع السيد خالد العودة والدكتور غانم النجار.
و»أبو فوزي» رجل هادئ، تسبقه ابتسامة رائقة حيث يذهب، لكنها ابتسامة سريعة، سرعان ما تختبئ خلف جدية عمله، يبدو لك عند لقياه مغموساً في القضية إلى أطراف عقاله، فهو متحدث متمكن من معلوماته الموثقة والمرتبة بشكل خلاب في ذاكرته، مترجمة على طرف لسانه مباشرة لإنكليزية متقنة، محايد بعناد لأبوته، معتبراً كل تحرر لمعتقل انتصارا شخصيا له، موزعاً جهوده بمساواة مؤثرة بين فوزي وفايز كرئيس للجنة المعتقلين وكأب لكليهما. لا أدري إن كان أبو فوزي يأكل وينام مثل بقية البشر، لكنني أعلم تماماً أنه هناك، دوماً على استعداد، مسلح بهدوئه وحياده ومعلوماته المصنفة بترتيب «كمبيوتري»، وابتسامته، تلك التي قد تكون أهم أسلحته وهي تفرض الأمل على كل من يعمل معه في قضيته الإنسانية. في نهاية زيارتنا الأخيرة لمركز تأهيل معتقلي غوانتنامو المعد بإتقان وبأهلية عالية، لفظت سؤالي قبل مراجعته: «كم مضى على احتجاز فوزي يا «أبا فوزي»؟» في ثانية من الزمان طرفت عيناه، ثم أجاب بلا تردد «في يناير المقبل يكمل عشر سنوات» ولم يزد وكأن عداداً يدور في رأسه حاسباً الثواني والدقائق على بعد فلذة كبده.
عشر سنوات تعلقت فيها روحه وروح «أم فوزي»، ولا شيء أقسى من ألا تدري إلا أن تدري أن المصير معلق على مصالح سياسية ونتائج انتخابات عوضاً عن القانون والعدالة. عشر سنوات تتأرجح خلالهما عائلتا العودة والكندري على حبال أمل منذور لأقسى أنواع الصلف والوحشية: سجن بلا محاكمة، سنوات بلا نهاية، مصير بلا تحديد.
وعندما ينتهك الحق الإنساني بهذه الدرجة من الترويع، يظهر في الصورة الدكتور غانم النجار، ثاني الاثنين المحاربين في هذه القضية الذين تشرفت بالانضمام للعمل معهما. والدكتور غانم رجل قليل الكلام، كثير الإنصات، قد تكون الطريقة الوحيدة لتتبع عدم رضاه هو تتبع عدد كلماته، فهو يقللها على قلتها، فإذا هبطت جملته من عشر إلى أربع كلمات، فهو بلا شك مستاء، والدكتور محارب إنساني لا يعرف الرحمة في مسائل الرحمة، يقضي وقتاً لا يعلم به أحد بين الصومال واليمن وغيرها متتبعاً القضايا الإنسانية، مفاوضاً وفاضاً للنزاعات، ثم لا يلبث أن «يزور» الكويت، هادئاً مبتسم العينين، وكأن الدنيا كلها بخير. تستغرق قضية غوانتنامو، إلى جانب قضية البدون، روح الدكتور، يختصر الغضب حديثه وهو يستعرض ظلم القرن الحادي والعشرين، ظلم من النوع الذي يجب أن تقرأ عنه في كتب التاريخ عن العصور المظلمة لا أن تعيشه في زمن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
العمل معهما مرهق ثقيل، يثير عليك ضميرك، يسائلك إخلاص نواياك، يحرق كل ما يغلفك من زيف ويضغط بمسمار حارق أعماقك الإنسانية، حتى تنجرح نفسك جرحاً لا يندمل، فتنضم إلى الفريق وأنت مؤمن، محروق، طرف صريح في القضية. ليس أصعب من متابعة مثل قضية ابنينا المأسورين، سوى متابعتها مع خالد العودة وغانم النجار، ينكآن ضميرك في كل لحظة، ينظفان زيفك بإخلاص حارق، أنعم بذلك من عذاب وأكرم به من شرف.