آخر اليوم ومع هبوط الشمس، قفلت السيارة عائدة بنا، أنا ووالدي ووالدتي، إلى شقتنا اللطيفة في أحد أحياء القاهرة. كان يوماً ممتعاً مليئاً بالمشاهد التاريخية والمتاجر المميزة وأطباق الملوخية والممبار الذي يعشقه والدي من أيام دراسته في القاهرة، وأكواب الشاي والقهوة، وحلو أم علي الذي لا آكله ولا أعرف طعمه إلى اليوم. مع آخر خيط شمس، كانت سيارتنا تأخذ طريقاً مختصراً دخولاً في منطقة مقابر عشوائية مرتبطة بشكل مباشر بالشارع العام، بلا أسوار أو حدود فاصلة. انتشرت الأضواء الملونة في المنطقة وتناثرت المقاهي المتواضعة في الأنحاء وامتلأت الممرات الترابية بالمشاة، الأطفال منهم أكثر من الكبار. لفتتني طفلة لربما في الثامنة من عمرها، تلبس فستاناً ملوناً كان زاهياً ذات زمن، تدخل عبر بوابة أحد المقابر التي هي ولا بد أنها مسكنها اليوم. كان المشهد سيريالياً، وقد تجاورت الحياة والموت بطبيعية صارخة، وقد زاد عدد الأحياء عن الأموات بين تلك المقابر، وقد تجلت البداية بزهوتها متمثلة في تلك الطفلة السعيدة متراكضة مرحاً في مقر النهاية وموقع الختام.
أعلنت عن شجن المشهد لوالديّ ونحن نجد في قطع الطريق الترابي، رغم أنه ليس بالمشهد الغريب عليّ أبداً، فمنذ طفولتي ووالدي يأخذنا في زيارات متفرقة للمقابر، نتعرف على أناسها ونأكل «سميطها» وخبزها ونقرأ الفاتحة لسكانها، إيماناً منه بضرورة أن نختبر النقيضين، فكما نسكن الهيلتون، نزور المقابر، وكما نحتسي القهوة في سيموندز، نتمشى في الدويقة ونتسوق في الفجالة. لكن مشهد تلك الليلة الذي رسمه آخر خيط نهار وهو «يلضم» نوره بظلمة الليل كان معبراً، متخماً بالمعاني والتناقضات، مفعماً بحب الحياة وبآهاتها وعذاباتها، ومحكماً براحة النهاية وبأشجانها ووحدتها. حكت والدتي عن ذكرياتها مع هذه المشاهد المعتادة، وكيف أن مناطق المقابر هذه أصبحت، ومنذ زمن، مناطق سكنية بكل ما للكلمة من معنى، ليتداخل والدي معها بأسلوبه الأدبي الشعري، الذي لا يزال يدق قلبي إعجاباً واستغراباً وعشقاً كلما سمعته، سارداً أن الحياة التي تجاور الموت حكيمة، حياة لا تخشى شيئاً بعد أن جاورت الموت، أكثر ما يرعب الأحياء أن للطبيعة قانونها الذي يعلي الحياة حتى في محيط كله فناء.
حل بنا جميعاً صمت يفترض أنه يليق بمنطقة الموت، إلا أنه بالتأكيد لم يكن لائقاً بهذه المقبرة المفعمة بالحياة. تساءلت عن المصير الذي ينتظر المنطقة ليخبرني سائقنا الشاب اللطيف أنها تبدو على وشك الإزالة تماماً كما تمت إزالة عشوائيات كثيرة مؤخراً تجميلاً لوجه القاهرة. وماذا عن سكان المناطق المزالة، سألت أنا، «يتصرفوا بقى» أجاب هو وقد ارتسمت نصف ابتسامة على وجهه. «يتصرفوا بقى» هو العَلَم المدقوق على حيوات الفقراء وفي قلوبهم، هو نصيبهم الذي بحجة قدريته يستريح الأغنياء ويريحون ضمائرهم.
«لا بد أن نذهب لزيارة عمك شفيق قريباً يا ابتهال، لي زمن لم أزر قبره»، قال والدي، فهززت رأسي سمعاً وطاعة وحباً وشوقاً لضريح عمو شفيق، صديق والدي الصدوق وعشرة العمر في القاهرة والكويت. داهمتني الخاطرة أن كيف لنا أن نخاف المقابر، أن نتشاءم منها أو نتفاداها، وهي تضم أكثر وأقرب من نحب؟ سخرية القدر أن يصاحب الخوف والتشاؤم الأغنياء فيما هما عصيين على أصحاب الفقر والحاجة، هؤلاء لا يمتلكون رفاهية الخوف والتشاؤم والتفادي، هؤلاء يعيشون مع ويتعايشون والموت، يحيون في المقر الأخير منذ بداية الحياة.
مع وصولنا لنهاية الطريق الترابي تبدت بعض الأضواء الأكثر سطوعاً، وعلت الأصوات الممتزجة بما يبدو غناء شعبياً مرحاً. ضحكت ملتفة لوالدي قائلة بسخرية «يبدو أنه فرح» (أي حفل زواج)، ليفاجئني والدي أن «نعم، في الغالب هو كذلك». ضيقت عينيّ بدهشة على المشهد علني ألتقط حقيقته، لم أكن أتصور أن الموضوع وصل حد إقامة الأعراس في المقابر، إلا أنه على ما يبدو كان الوضع دوماً كذلك، عرائس تلبس الأبيض احتفالاً وموتى تلتحفه كفناً، فالحياة تجب ما عداها، والفقر لا يستطيع أن يقضي على الأمل، وتلك الحياة ستستمر، لا بد أن تستمر، حتى في أكثر الصيغ تناقضاً وغرابة.
قذفنا الطريق الترابي على طرف طريق مرصوف مجدد، جدت فيه سيارتنا هاربة من صخب الموت إلى هدوء الحياة، من أضواء المقابر وزحامها إلى ظلام الشوارع وانتظامها، ترى من هو الحي ومن هو الميت في هذا المشهد السيريالي الغريب؟ لماذا تبدو المقبرة أكثر حياة والشارع أكثر وحشة؟ بقي قلبي موجوعاً بفكرة تشريد أهالي المقابر أكثر ما هم مشردون، تغييبهم عن الحياة أكثر ما هم مغيبون. لقد دفع الفقر بهؤلاء لمجاورة الموت، فإذا تم طردهم من حضرته، فأي حضرة ستستقبلهم، وأي حيز سيرحمهم ويقبل بهم؟ ألححت في السؤال والتعليق، ليؤكد السائق اللطيف، من تحت ضروسه، بأن الحكومة ستتدبر أمرهم، وليطفو تعليق والدي المختصر الحاد، على طراز كل تعليقاته، «هو التيه في هذه الحياة»، ولترن نغمة تلك الأغنية في رأسي بكلمات شاعر الفقراء أحمد فؤاد نجم، التي تقول «فى المشمش يا سى مشمش.. سؤال بنسجله، هيطرح للا مش .. عمّال بتأجله». ترى ما ستطرح مشاريع إعادة «تزويق» العشوائيات لتكون أكثر «ليونة ورحمة» بعيون الأغنياء والسياح طالبين المتعة والترفيه وأقل إزعاجاً لنفوسهم الآنفة الفقر والموت؟ هل ستنقذ مشاريع «الرأفة بالأغنياء» الفقراء فتنقلهم إلى حياة أفضل، أم أنها مشاريع عزل، ستبتعد بهم عن مرأى الأغنياء ضعيفي القلوب، سريعي التأثر، إلى مواقع أكثر قفراً وأقل رحمة؟ هل ستتحقق الأحلام أم أنها «مش»* دائم التأجيل؟
*المش هو جبن مصري فلاحي، يتم تحضيره بوضعه في لبن وملح ليترك دهراً حتى «يخرب» محققاً الطعم المنشود.