تحميل إغلاق

هيلين

هيلين

“هيلين كروسينج كيتل وطفلها الذي لم يولد بعد”

جملة محفورة على سطحة حديدية، اسم بين آلاف الأسماء مطبوع هكذا، يرقد بلامبالاة تحت سماء نيويورك، اسم حفر في ذاكرتي، لا أعرف صاحبته ولا أدرك شيئاً عن الحدث الذي كانت تستقبله، ولكنه هنا في ذاكرتي، أحمله معي ألماً ثقيلاً وذكرى مريرة وشعوراً مبهماً بالذنب.

في زيارة سريعة لنيويورك، على هامش رحلة لحضور مؤتمر في بوسطن ماساشوسيتس، طفت بمنطقة الصفر في قلب نيويورك، مانهاتن، حيث كانت تقوم في يوم ناطحتا السحاب التوءمتان المعروفتان “بمركز التجارة العالمي”. تحولت المنطقة اليوم تماماً، يحاول النيويوركيون أن يخلقوا عبرة من قلب المأساة، أن يصنعوا جمالاً في قلب القبح الذي كان. الموقع اليوم نظيف تماماً، تحول إلى حديقة عامة جميلة، تستضيف أربعمئة شجرة موزعة بانتظام بين شلالين مائيين ضخمين، كل شلال منتظم في مربع ضخم، كل مربع يرسم بدقة حدود التوءمتين ناطحتي السحاب. التخطيط بسيط جداً ومفتوح إلى السماء، لا يحوي سوى هذين الشلالين الضخمين والأشجار. كل شلال يرقد مكعب الشكل محاط بحافة حديدية عريضة تحوط المربع الضخم بأكلمه، محفور عليها أسماء كل الذين فقدوا حياتهم يوم 11 سبتمبر عميقاً في الحديد. أحج حول المربع الحديدي، أمسح بإصبعي على الأسماء، ناس لا أعرفهم، أسماء كثيرة متناثرة، رجال ونساء، أطفال وكبار، أسماء عربية، أسماء هندية، أسماء لا أعرف ما يمكن أن تكون أصولها. ثم… هيلين.

للموت رائحة غريبة، رائحة غابة طازجة، زرعها مبلل وهواؤها معبق، جميلة ومتوحشة في ذات الوقت. التفت الرائحة حولي، تغلغلت في ثنايا ملابسي، تملكني خوف رهيب، ليس من الموت، فهذا له رومانسيته الغريبة، ولكن من أسبابه الوحشية، من لا مبالاته، من تكالب البشر على تحقيقه، وكأن الدنيا وفرار زمنها من أيادينا لا تكفي، فرحنا نعاونها على الإسراع في إسدال ستار النهاية. مؤامرة باذخة العنف ندبرها جميعاً ضد بني جنسنا، بعضنا يقصد، بعضنا لا يقصد، وبعضنا لا يبالي، وكلنا في التدبير، بشكل أو بآخر، ضالعون.

خنقني الشعور بالذنب، شعور يلازمني مع مصاب أي إنسان حولي. أحياناً، يبدو لي أن السبعة مليارات إنسان على سطح الأرض متشابكون بسلسلة طويلة، يد هذا على قدم ذاك، وقدم هذا إلى كوع ذاك، سلسلة توصل آلامنا وآمالنا، توحد هدفنا وتربط مصايرنا وأخيراً… تحمّلنا جميعاً المسؤولية. لذا، وعلى الرغم من شعوري بالذنب تولد لدي شعور باللحمة مع من حولي من زوار نقطة الصفر هذه. تنوعنا الصارخ جذبنا اقتراباً من بعضنا بعضا، هذا التنوع الذي، وهو يذكرنا باغترابنا وتباعد أصولنا، يلح علينا بحاجتنا إلى التعاضد لكي نحيا ونستمر.

هيلين وطفلها الذي لم يولد بعد، أرتبط بها عميقاً، في تواصلي مع مشاعرها الأمومية، في تخيلي لمراحل حياتها التي أوصلتها بحملها إلى البناية المنكوبة، في تصوري لذكريات وأمنيات وندم وخوف ثم رضوخ الدقيقة الأخيرة، قبل أن يسقط المئة طابق ونيف بها من شاهق السماء.

أعرف هيلين وطفلها الذي لم يولد بعد تماماً، تلازمني منذ زرت شلالها المائي، أعتذر منها كل يوم، أحكي لطفلها حكايا الحياة التي لم يتذوقها، دوماً موجودة بين خرائب قلبي، اسم منقوش على الحديد، تحت السماء فوق الشلال، تلح عليّ ذنباً وغفراناً ومحبة.

“آخر شي”: التصويت بأغلبية لعقوبة الإعدام للمسيء إلى الرسول أو صحابته أو أهل بيته، عطش فاحش للقتل والمزيد من القتل. قانون حتى لو لم يقر أو أقر ولم يطبق، لا تزال مجرد فكرة طرحه والتصويت بأغلبية عليه تشير إلى مرض نفسي اجتماعي خطير… نحن شعوب تحب الدماء.

اترك تعليقاً