تفصلنا ساعات، لحظة كتابة هذا المقال، عن موعد سفر ياسمينة، آخر العنقود، للدراسة في بريطانيا. رأسي ثقيل، ولدي شعور ضاغط في المعدة، عدا ذلك، كل شيء يسير بشكل طبيعي. صحوت صباحاً وتناولت إفطاري وقدمت محاضراتي في موعدها ودخلت المطبخ في موعدي، هذا الذي استجد مع بداية كورونا، وجلسنا حول طاولة العشاء في موعدنا، وتضاحكنا على الحكايات ذاتها، وعزرت الأولاد التعزير ذاته الذي أسبغه عليهم منذ أسبوعين بسبب عزوفهم عن الحجز لمسرحية هاملت في مسرح «الجلوب»، لا أدري كيف يفكر هؤلاء المجانين، سيكونون في لندن، وسيعرض «الجلوب» هاملت وهم معرضون. كم يثير غضبي هؤلاء الجهلة الصغار.
كان القرار أن يوصل الأولاد أختهم الصغيرة إلى مدينتها البريطانية، لم يكن لدينا أنا وأبيها متسع من الوقت، لدينا بعض الارتباطات في الكويت، مازال السفر غير جاذب في زمن الكورونا، كثيرة هي الأسباب التي سقناها، وما اعترف أحدنا للآخر بحقيقة الأمر، اتفقنا دون كلام في موقف لا يحتمله كثيراً. الآن هي فقط ساعات تفصلنا عن اللحظة التي سأضع فيها طفلة صغيرة في طائرة لأرسلها إلى قارة أخرى لتعيش هناك سنوات بعيدة عني، أي جنون هذا؟ أي قرار غبي اتخذته أنا في لحظة ضعف وغياب؟
لست حزينة ولست متألمة، مشاعر أخرى تستبد بي. نادمة أنا على أنني وافقت على سفر هذه الطفلة، هي مجرد طفلة فعلاً. حصلت ياسمينة على إجازة القيادة قبل سنة، ومازالت عازفة عن القيادة بمفردها، مازلنا أنا ووالدها نأخذها لكل مكان وننجز كل أمورها بأنفسنا. أي جنون دفعني لإرسال هذا الشيء الناعم الهادئ اللطيف الطفولي لبلد غريب لتعيش فيه بمفردها بين ليلة وضحاها؟ نادمة أنا كذلك على إيكال أمر إيصالها لوطنها الجديد لأخيها وأختها، هذه مهمتي التي تخليت عنها جبناً وتخاذلاً. حقيقة الأمر أنني لم أكن واثقة من أنني إذا أوصلتها لبلاد الضباب سأكون قادرة على تركها والعودة دونها، حقيقة الأمر أنني لست بالقوة التي دوماً ما أدعيها وأمثلها. في نهاية الأمر، أنا مجرد أم، بكل تقليديتها وضعفها ولا معقولية مخاوفها.
ولأنني مجرد أم، فإن أعظم مشاعر الندم التي تأكلني الآن هي ممتدة لتغطي آخر ثماني عشرة سنة من حياة صغيرتي وحياتي. الحقيقة هي، وهذا اعتراف صادق وليس من النوع الذي ينتظر نفيه، أنني لم أكن موجودة دوماً لهذه الصغيرة التي قررت أن تأتي للحياة وأنا على أعتاب كتابة رسالة الدكتوراة. ولدت ياسمين وأنا في خضم كتابة الرسالة، وكبرت وأنا أسعى لبناء مستقبل مهني وتأسيس منهجية عمل مجتمعي جعلت من أيامي أزمنة قصيرة متقطعة بالكاد أتلاحقها وألحق إيفاء عملي خلالها.
قصرت كثيراً أنا مع هذه الصغيرة. نعم، كنت موجودة في كل مناسبتها، أقمت لها أعياد الميلاد، وحضرت أيامها المدرسية المهمة، وسافرت معها وحدنا لنحضر بعض حفلاتها الغنائية السخيفة، واصطحبتها بعض السنوات، وليس كلها، في أول يوم دراسي لها في المدرسة. لكنني الآن، في هذه اللحظة، لا أتذكر الكثير من طفولتها، من وقتي معها. هل كنت معها وما كنت معها فعلياً؟ أعصر مخي اللحظة لأتذكر أول يوم لها في الابتدائية، فلا أتذكر. أحاول تخيل زي «القرقيعان» الأول الذي حضرته لها وكل علب الحلوى التي جهزناها معاً، فلا أتذكر. لا أتذكر حتى معدلها الذي تخرجت به من الثانوية وأهّلها للبعثة الدراسية، لا أتذكر أي شيء، بياض حاد ساطع حل محل كل الصور والكلمات والذكريات. بين اللحظة والأخرى، تحضرني ذكرى لطيفة، مثل تلك التي وقعت قبل سنوات، حين قررت هي أن تتبرع بمبلغ «عيديتها» كاملاً لأطفال الصومال، حيث اصطحبتها للهلال الأحمر الكويتي لتقدم تبرعها. لحظة خروجنا، التفتت إليّ وقالت بصوتها الخافت الرفيع «ماما، انتهينا من أطفال الصومال، من سنساعد السنة القادمة؟»، ابتسمت لها ابتسامة غزيرة تحاكي طراوة فكرتها، اعتقادها أنها أنهت مشكلة كاملة لتنتقل لما يليها، وتليت على مسامعها بشكل مخفف بعضاً من بقاع الدنيا التي تعيش مآسي لم ترها هي، لم تختبر نوعها مطلقاً. أتذكر وجهها وهي تفكر، تختار بين مآس لربما شكلت في مخيلتها الطفولية آنذاك صوراً كرتونية أكثر منها حقيقية.
تحضرني هذه الذكريات كأنها بقع دافئة بين بياض النسيان الشاسع. أمسك بالذكرى، أتدثر بها قبل أن تطلقني مرة أخرى لصحراء النسيان الباردة، لماذا لا أستطيع تذكر كل الأشياء؟ أنا متيقنة أن أحد الأسباب هو أنني لم أصنع ذكريات كافية، أنا متأكدة من ذلك. دوماً منشغلة، أركض من هذا الموعد لذاك، ومن هذا الاجتماع لتاليه. مؤخراً، هدأت الدنيا وتبينت لي ملامح الأيام، وأصبحت لدي الفرصة للاستمتاع ببضع ساعات أكثر من أيامي المتسارعة. وفقط حين زاد كرم الأيام، بخل القدر وأرسل ياسمينتي لبلاد بعيدة، يعاقبني على كل تقصيراتي، على كل تأجيلاتي، يذكرني أن الفرص مثل كل شيء في حياتنا، ذات عمر محدود ونهاية محتومة. لست حزينة ولكنني نادمة، نادمة على كل يوم لم أقضه معها، كل ساعة لم ألمس خلالها شعرها وأربت على أرنبة أنفها، كل ثانية لم أتنفس هواءها. نادمة أنا على وصولي السريع لهذه اللحظة، حيث كبرت ياسمين وأصبحت تقرر لنفسها، وأول قرار اتخذته هو أن تغادر، العين بالعين والسن بالسن والبادئ أظلم.
على حوائط المنزل تنبض فجأة ذكرى. نعم، أتذكر ذات سنة حين قررت ياسمين أنها تريد «هامستر» لتربيه في غرفتها. فزعتُ من فكرة وجود «فأر» في المنزل (فنحن في شرقنا الأوسط نتربى على النفور من الحيوانات، لا التعايش معها) وقال والدها «لا» صارمة لم تعتدها من أحد منا. حين صحونا صباح اليوم التالي، كانت حوائط المنزل مليئة بأوراق صغيرة لاصقة، كلها تحمل حججاً حول لطف وجمال «الهامستر» وأهمية أن يكون لديها واحد مثله في غرفتها. قضينا أياماً ونحن نبحث عن هذه الأوراق ونقرأها ضاحكين معجبين بالفكرة وتنفيذها، وإصرار وعزيمة صاحبتها. لم تحصل ياسمين على مرادها، وبعد فترة، نسيت طلبها هذا متعدية إياه إلى طلبات أخرى. أف، هي ذكرى تحمل ندماً جديداً، ليتني اقتنيت لها «الفأر» الذي تريد، ليتني استجبت لرغبة قلبها البسيطة تلك.
والآن هي لحظة المواجهة، مواجهتي لنفسي كأم جيدة، وكامرأة قوية تفهم أن أبناءها هم «أبناء الدنيا»، لا حق لها فيهم أكثر من المحبة التي يجب أن تنالها استحقاقاً عملياً لا تحصيل حاصل بيولوجياً. الليلة وصباح الغد يجب أن أكون في أفضل هيئتي أماً وامرأة وزوجة، سيحتاجني الجميع أن أكون في أفضل وأقوى صوري، وسأكون كذلك وأنا أعض أصابع الندم المر. أوكلتك يا صغيرتي لعقلك، لهدوئك، لحكمة هي أكبر من سنيّ عمرك بكثير، أوكلتك للتربية والتأهيل اللذين نلتيهما، لمحبتنا التي تعتمدين عليها دوماً، لقوة شخصيتك وإصرارك على تنفيذ خطتك التي طالما استغربت جهوزيتها وإحكامها، أوكلتك لمبادئ ومثُل أتمنى أن تكوني رأيتينا نمتثل لها أكثر مما نكسرها ونخرقها، أوكلتك لدنيا أتمناها رحيمة، وقدر أترجاه عطوفاً، ومستقبل أتوسله مشرقاً، وسعادة أصرها حظك ونصيبك، أوكلتك دعواتي وصلواتي وكل محبتي وأمانيّ، مع السلامة يا صغيرة.