في قمة التنوع الديني والروحي الثانية التي انعقدت في بيروت يومي 18 و19 ديسمبر/كانون الأول الماضيين، وأتت كجزء من «مشروع تعزيز التماسك الاجتماعي في المنطقة العربية» الخاص ببرنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP، تحدث القس المصري الأب رفعت فكري معقبا على فكرة القراءات التجديدية المسالمة للنصوص الدينية، فوقف قائلا بصوت جهوري ثابت إنه لا حاجة حقيقية لنا إلى القراءات المسالمة للنصوص الدينية، وستبقى هذه النصوص، قال الأب، حمالة أوجه، وسيبقى للناس فهم مختلف لها، ما نحتاجه فعليا هو قوانين قوية صارمة تحمي الحريات والحقوق وتصون المجتمع من قوى التطرف والكراهية. كان الأب رفعت قويا، هادئا، مباشرا، ما عرف اللف ولا الدوران، لم يزيّن جمله ولم يصقل كلماته، جاء حديثه مباشرا واضحا جريئا، لا مجاملة فيه لبقية رجالات الدين الموجودين في القاعة، لا تراجع في نبرته عن الفكرة المدنية القانونية الكاملة التي ارتآها الأب حافظة للمجتمع والحقوق.
سيقول البعض إن الأب ينطلق من منطلق الأقلية المسيحية في العالم العربي الإسلامي النكهة، وإنه لو كان يعيش في مجتمع مسيحي لما طالب بالمدنية لتحل محل التشريع المسيحي، في حين أنني لا أعتقد حقيقة بهذه القراءة، وذلك لما اتخذته المسيحية من خطوات تقدمية موائمة ومسالمة مع موضوع المدنية والفصل الواضح بين السياسي والديني، كما أنني أعتقد أن الأسلم للأب رفعت هو التوافق مع بقية معظم رجالات الدين في القاعة بعدم التصريح المباشر بكلمة «العلمانية» التي أتت على لسانه مرارا وتكرارا، وبعدم إشهار إيمانه الاجتماعي العميق بمدنية القوانين.
ثمة قوانين تحمي من تطرف وتشدد ويعترف الأب بوجودها في كل الأديان.. إلا أن كل القراءات والشكوك لا تهم! وقراءة نــوايا الأب رفعت غير مجــــدية! ولكن تبقى هناك حقيقــة واضحة جلـــية؛ إذ لم يكـــن وقــوفه وسط القاعة بلباسه الــــدال على هويته المسيحية ليطالب بإعلاء الكلمة الدينية، أيا كانت، والتي يعرف هو أنها قادرة على أن تتحيز وتدعي الكمال والرفعة والحق المطلق، بل ليطالب بقوانين تحفظ الحقوق والحريات وتؤمّن مساواة الجميع في الدولة التي يحيون على أرضها.
لم يكن موقف الأب رفعت، كما كان واضحا، آتيا من أي نقص في الإيمان بالنصوص الدينية أو بعقيدته المسيحية، بل على العكس تماما، كان موقفه نابعا- كما بدا لي- من اعتقاده بقصور الفهم الإنساني الذي مهما تطور لا بد أن يقع في خطأ الاعتقاد بالعلياء والكمال.
رجال الدين المسلمون الموجودون في المؤتمر كانوا معتدلي الحديث كذلك، يدعون للسلام والتعايش، مؤكدين أهمية احترام الآخر، إلا أن أحدا لم يتناول القضية بشكل حقيقي ومباشر. بعد نهاية الجلسة الثانية للقمة، تحدثت أنا مطالبة رجال الدين الحضور بتناول المشكلة بشكل حقيقي، بذكر القصور الذي طال ممارسات مؤسساتهم وبطرح الحلول والخطط المستقبلية، إلا أن كل الحضور الديني تقريبا استخدم منصة القمة لذكر حسنات مؤسساتهم وإنجازاتها وعظمة فكرها ومبادئها وسمو أهدافها وحقيقية تفعيل هذه الأهداف. أين المشكلة إذن إذا كنتم جميعا خير مؤسسات شُكلت للناس؟ لِم نعاني وهذه المؤسسات على هذه الدرجة من الكمال؟ لم يتناول أحد من رجالات الدين المشكلة بشكل واضح وحقيقي، لم يشر أحد منهم إلى الفيل الواقف في منتصف القاعة، بقيت المداخلات من الحضور هي الأقوى والأكثر واقعية وجرأة ومباشرة، وبقي رجالات الدين، في معظمهم، متجاهلين هذه الملاحظات، معرضين عن التناول المباشر للمعضلة: معضلة الاعتقاد بالحق المطلق الذي يبرر إحكام القبضة على رقاب بقية الناس.
الأب رفعت لم يختبئ خلف طاولته، لم يرفع كأسه «ليملأ فمه ماء» فيما الآخرون يتناولون الممارسات الدينية المؤسسية بالنقد، معلنين عن إحباط ومخاوف وانقسام شوارعهم العربية. وقف الأب وقال: لن تحمينا القراءات الطيبة والتجديدية.. هي مطلوبة بكل تأكيد لتطوير المجتمع، لكن لا لحمايته بشكل مباشر وحقيقي. وقال: ما سيحمينا هي تلك القوانين المدنية التي تضمن حقوقنا وحريتنا وسلامتنا. الأب رفعت ليس رجلا مبدئيا حقوقيا فحسب، هو إيضا رجل ذكي بعيد النظر، يعلم أن ما سيحميه أكثر من فرض معتقده ومبادئه ومفاهيمه، هو تحرير هذا المعتقد وهذه المبادئ والمفاهيم، وحماية وجودها، وحقه في ممارستها والتصريح بها. هو يعلم أن الفرض لا يدوم، ولن يتسبب سوى في الزعزعة وإشعال نزاع يصعب إخماد فتيله، الأمر الذي سيضره ومعتقده وأمنه واستقراره هو شخصيا ومجتمعه ككل. الأب رفعت يحق الحق ويحمي نفسه ويمثل دينه ومعتقده وبلده خير تمثيل، ومن خلال ذلك كله نال احترامنا وتقديرنا جميعا. شكرا للأب رفعت، وكل الشكر لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP على عقد هذه القمة المهمة، التي قد تأتي فرصة مناقشة بعض أوراقها الأخرى في المقالات القادمة.