هل يمكن أن تكون هناك حالة تجمع البشرية بأكملها وتخلق منها جبهة موحدة؟ يقول الفلاسفة إن البشرية لم تتفق في يوم على مفهوم فلسفي أو مبدأ أخلاقي أو نظرية روحانية أو حتى معلومة عملية مفردة، لم تتفق البشرية سوى على «حقيقة» واحدة، ألا وهي حقيقة الموت، وحتى هذه يختلفون في فهمها وفلسفتها وحساب الخطوة التي تليها. فكيف تُوحد كائنات على هذه الدرجة من الاختلاف وهذه الدرجة من الأنانية؟ كيف تُصنع جبهة موحدة من مفردات إنسانية غريبة، رائعة في اختلافها، متفردة في رحمتها، قاسية في أحكامها، غاية في الشهوة للسيطرة، وغاية في الشراسة ضد من يختلف معها أو يهدد قواها؟ كيف تُجمع الأضداد وتوحد الرحمة والقسوة ويُشرك الجشع والعطاء على ذات الجبهة؟
حضرتني الفكرة وأنا أشاهد فيلم Extinction أو «فناء» للمخرج بن يونغ، أن فكرة توحيد البشرية أجمعها، فكرة إذابة كل اختلافاتها، لن تتحقق سوى بوقوع كارثة ذات حجم كوني يضع البشر في مواجهة ليس فقط مع العامل الدخيل على بشريتهم، بل مع حقيقة ضآلتهم اللامتناهية الكونية كذلك. إن معضلة البشر هي في طبيعتهم الجينية التي أدت إلى تركيبة نفسية تجعل كل فرد منا ينظر للكون بالعلاقة تجاه نفسه، أي أننا نقيم الكون والأحداث قياسا على مدى تأثرنا بها وتأثيرنا فيها. كل شخص منا، لا شعوريا، يعتقد أنه مركز الكون، وأن كل ما يجري في هذا الظلام السحيق الشاسع تتحدد قيمته بمدى تأثيره فيه. نحن نرى الكون من الداخل، من دواخل نفوسنا، وفي ذلك نحن معذورون، فنحن غير قادرين على الخروج خارج ذواتنا، غير قادرين على الانفصال عن أجسادنا أو حيواتنا أو ظروفنا، لرؤية الصورة كاملة. ربما لا نرغب في أن نخرج ونرى، فنحن كائنات تحيا وتعتاش على أنانيتها، ولن تكون لدينا القدرة أن نتعايش وحقيقة حجمنا المتناهي الضآلة حد عدم الوجود تقريبا في هذا الكون اللامتناهي.
وبسبب من هذه النرجسية البشرية، بسبب من هذا الاعتداد المضحك بالوجود، ميز بعضنا بعضا، خلقنا فروقا وطبقات وأشكالا وألوانا، قررنا أن الخالق معنا نحن، نحن فقط أصحاب هذا الدين، نحن فقط أصحاب هذه البقعة من الأرض، نحن فقط أصحاب هذا الكتاب وهذا الفكر. وضعنا الأرض في مركز الكون لقرون، وقررنا أن البشرية متفردة في هذا الظلام اللامتناهي، وأن كل شي مصنوع من أجلنا، وأن الخالق لم يخاطب سوانا، ثم أمعنا في مركزيتنا حين تفرقنا إلى فرق متناهية في الضآلة، لا تعتقد فقط بمركزيتها في الكون، بل تؤمن كذلك بمركزية مركزيتها أنها لب اللب، وأنها الفرقة المنتصرة، وأن الخطاب الإلهي موجه لها دون غيرها. لم تصبح مجرتنا فقط المركز، ولا شمسنا ولا أرضنا، إنما أصبحت مجموعة بشرية ضئيلة، تقريبا لا وجود لها بسبب نمنمتها في هذا الكون الفسيح، هي مركز المركز، هي الإلكترون داخل نواة الذرة، هي السبب في صنع الكون، هي الغاية والمنى، سعادتها هي الهدف وإنقاذها بعد فنائها هو أسمى الغايات.
بكل هذه البيولوجية البدائية والسيكولوجية المعقدة، بكل هذه النرجسية والعنجهية، بكل هذا العجز عن الرؤية أبعد من ظلمة ما بعد غلافنا الجوي، بكل أعمارنا المتناهية في القِصر وأنواتنا (جمع أنا) المتعاظمة التضخم، بكل جهلنا، بكل إصرارنا على كشفنا الغيب وعلمنا بالمجهول، بكل هذا العناد المضحك والاعتداد بالنفس الفكاهي والثقة الساذجة بالإمتداد الروحي والوجود الأبدي، بكل كل هذا، ما الذي يمكن أن يوحدنا؟ ليس أقل من غزو فضائي، خطر من خارج هذه الكرة الأرضية بأجمعها هو ما قد يستطيع أن يصنع من البشرية بأكملها جبهة موحدة تذوب عندها كل اختلافات البشرية المصطنعة وتتبين عندها ضآلة وهامشية الوجود البشري في هذا الكون السحيق، ويتوحد من خلالها الهدف البشري الأسمى والأصعب: مقاومة الفناء.