لا يوجد طرف نظيف في كل هذه القصة سوى الشباب الصادق الذي يقع في منتصفها، لذا يصعب الكتابة عن الموضوع بأريحية وثقة، وعلى عادتها، تمطعت الحكومة وفردت نفسها عن آخرها فصنعت، بقراراتها الغريبة، أبطالاً من أعدائها، وأن يستدعى مسلم البراك للتحقيق في ما ادعاه تجاه القضاة فذاك بالطبع هو الإجراء السليم بناءً على القضايا المرفوعة عليه منهم، وأن يحجز على ذمة التحقيق لعشرة أيام فتلك رسالة موجهة، وليس بإمكان البراك الهرب إلى أي مكان، كما أنه وقف في ساحة الإرادة وأعلن مسؤوليته و”ملكيته” لكل ما ادعاه، أي أن الرجل اعترف على نفسه أنه مصدر المعلومات ولا أحد غيره اعترافاً موثقاً ومسجلاً، فما الداعي لاحتجازه؟
الداعي طبعاً هو إرسال رسالة، وعلى عادة حكومتنا، ترسل الرسالة “الخطأ في التوقيت الخطأ”، فعوضاً عن أن تبدو خلال كل إجراءاتها حكومة محايدة، أخذت من البداية جانباً واضحاً وامتطت أسلوب التخويف والترهيب، فمن يتكلم حقاً أو باطلاً فستتشدد عليه الإجراءات، و”يتبهدل” ويحتجز بداع أو بغيره حتى يبتّ القضاء في أمره، والمتهم مدان حتى تثبت براءته. إذاً “لسانك حصانك” هو رسالة الحكومة، وإن لم تصنه (والصيانة هنا طبقاً للتوجه الحكومي) فلن يصونك، والجميل أن كله في السليم، فليّ الذراع والترهيب اللذين بين سطور الإجراءات لا يمكن الاعتراض عليه، حيث إن الخطوات القانونية مضبوطة ولا حجة للمحتجين. ثم تخرج القوات لتفريق مظاهرات الاحتجاج على احتجاز البراك، فيظلل العنف المشهد بأكمله، والعنف دوماً ملامته تقف على الطرف الأقوى، الأكثر تنظيماً والمالك للسلاح لا على الأفراد الذين غالباً ما يكونون غير منظمين وعزلاً. وإلى تاريخ كتابة هذا المقال وصلت الأخبار باعتقال أكثر من عشرة أفراد، أحدهم نعرفه شخصياً، شاباً محترماً خلوقاً، دوماً ما يخرج ليعبر عن الحق من وجهة نظره ولكن أبداً لا يثير شغباً ولا ينتهج عنفاً، فأين هؤلاء الشباب الآن؟ وما التهم الموجهة إليهم؟ وما الإجراءات المتخذة بحقهم؟ وهكذا، تحول اللوم بأكمله في المشهد العالمي على الأقل، إلى الحكومة الكويتية. فالمعروف في العالم المتحضر أن القوات تتجمع إبان المظاهرات لحماية المتظاهرين لا لمهاجمتهم، والمتعارف عليه أن عملية تفريق المظاهرات لا تبدأ بالرصاص المطاطي، فهناك دوماً تدرج في استخدام أساليب التفريق، وهو تدرج لا يبدأ أصلاً إلا إذا ظهر عنف حقيقي من المتظاهرين، أما مشاهد اندساس المباحث بين المتظاهرين ثم فتح النار المطاطي عليهم، فتلك مناظر لا تليق بدولة مدنية متقدمة، تليق بدول أخرى نعرفها جميعنا جيداً. المحزن في الموضوع أننا اعتدنا على هذا المشهد في الشارع الكويتي، اعتدنا على القنابل المسيلة للدموع والرصاص المطاطي، ولأن الشارع تجاهل هذا العنف الذي مارسته الحكومة تجاه البدون في يوم، التفّ ووصل إلينا في عقر دارنا اليوم. من الصعب اليوم مخاطبة مؤيدي البراك، فهم الطرف الأضعف والذي ما زادته الحكومة سوى إضعافاً وتهميشاً سيصل به حد الانفجار، لربما كان يجدر بالبراك تهدئة الشباب، فالبطل الحقيقي يلبس تعنت الحكومة وساماً على صدره ويمتشق تعسفها قوة على خاصرته، يدفع الثمن بطيب خاطر للمواقف الحقة التي يؤمن بها، فالتضحية تكتمل بدفع ثمنها، ولربما كان يجدر بمؤيدي البراك إعلان استيائهم بشكل مغاير، بغير طريقة الصراخ والتهديد والوعيد، وكأن ما أخرجهم في المظاهرة هو موقف قبلي تجاه شخص لا موقف مبدئي تجاه قضية، فما قلوا عن الفرحين باعتقال البراك إساءة، هؤلاء فرحوا عنصرية وأولئك غضبوا قبلية، والاثنان في بحر التطرف غريقان. ومع كل ذلك، فالخطاب ليس للمتظاهرين، ليسوا هم المسؤولون عن الحال التي وصلنا إليها، فحالنا هي صنيعة حكومية خالصة، هي نتاج سنوات من التحالفات المشبوهة والمقايضات المريضة، هي نتاج فساد يتراكم، هي نتاج عنف وأسلوب “سيف ومنسف”، حتى ضاعت معالم الدولة المدنية، ووصلنا إلى ما وصلنا إليه. الخطاب اليوم هو للحكومة، لن نقول نتمنى عليكم القضاء على الفساد والتوقف عن المقايضات والتحالفات، فهذا مشروع عمر لن نراه على ما يبدو في أعمارنا هذه، سنقول شيئاً أقرب وأسهل، ليتكم مرة توجهون الرسالة “الصح في التوقيت الصح”، فتتركون التعسف لحكمة التصرف، وتظهرون الجانب الأكثر هدوءاً وقانونية، فذاك لن يتمم لنا الأمن فقط، لكنه سيخدمكم أنتم كذلك، يظهركم بمظهر الشجاع الحكيم ويضعف من بطولة خصومكم ويقلب الطاولة عليهم. العنف لا يبدأ من الناس، العنف يبدأ من قياداتها، فإن استهلت به القيادة معاملتها للناس، فسينتشر نهجاً بينهم، وإن انتشر بين الشعب، فهو كالنار في القش، ساعتها لن تتمكنوا من التحكم فيه أو إيقافه.