أكثر الجدليات غرابة في حرب المحافظين على الحركات التقدمية أو الحقوقية كالحراك الليبرالي أو الحراك النسوي هي جدلية تحول المجتمع الداخلي (عربي، إسلامي) إلى مجتمع متفسخ هابط حال تطبيقه لمفردات هذه الحركات أو للأفكار الأساسية التي تقوم عليها. في هذه الجدلية الغريبة المستريبة والمهينة في الوقت ذاته الكثير من التضمينات للفكر والنفسية العربية المحافظة من حيث تعاملها مع العالم الخارجي، ومن حيث تفاعلها مع الحركات البشرية العامة التي يفترض أن يكون العرب المسلمون جزءاً لا يتجرأ منها، بحكم أنهم جزء من المكون البشري العام.
أولاً، تنحو هذه الجدليات، في توجه صغير متواضع، لتغييب كامل للنظريات والفلسفات التي تقوم عليها هذه الحركات التحررية في محاولة، أحياناً متعمدة وأحايين ناتجة عن كسل اطلاعي، لتشويه صورة هذه الحركات ولتخويف الشارع العام منها. محاولة إظهار كل الحركات التحررية على أنها حركات كفر معادية للمنظومة الدينية أو أنها حركات متحللة من الأخلاق وأن أصحابها يحيون بلا منظومة أخلاقية تحكمهم وسلوكياتهم وفكرهم، هي لربما أقدم جهود الطرف المحافظ في مهاجمة هذه الحركات التحررية، وهي فوق كونها محاولات ساذجة ركيكة، هي حقيقة بحد ذاتها محاولات لا أخلاقية، تسعى لتشويه صورة فكر وسمعة أصحابه في سبيل تحقيق مأرب وانتصار.
ثانياً، تشير هذه الجدليات إلى فقدان كامل الثقة في المجتمع الذي يدعي المتشددون أنه مجتمع محافظ متدين وأخلاقي. كيف تتلاقى الفكرتان، من جهة المجتمع محافظ وملتزم دينياً، ومن جهة أخرى هو على شفا حفرة، شجرة كريسماس أو علامة قوس قزح، أو ظهور شخصية مختلفة جندرياً في فيلم، تهز أسس هذا المجتمع وتهدد منظومته الأخلاقية؟ لربما أسوأ جوانب هذه الجدليات يتمثل في هذا الاتهام المبطن حقيقة للمجتمعات العربية الإسلامية، اتهام بأنها مهزوزة، غير قادرة على الارتكاز على منظومتها الأخلاقية، أن أقل القليل يمكن أن يؤثر بها محولاً إياها عن قيمها العريقة المتجذرة وعن دينها الراسخ الذي خاضت من أجله هذه الأمة حروباً لا تعد ولا تحصى.
ثالثاً، وأتصورها النقطة الأوقع والأهم والأكثر ضحالة «علمية» إذا صح التعبير، هو أن هذه الجدليات تشير بجهل وسذاجة واضحين إلى أن تطبيق الأفكار التحررية والحقوقية له نتاج واحد على كل المجتمعات الإنسانية، دون النظر إلى الأمثلة الحية المتوافرة للكيفية التي تجاوبت بها المجتمعات الإنسانية المختلفة مع الحركات التقدمية، الليبرالية، النسوية، الجندرية، اليسارية وغيرها. بل إنه حتى في المنظومة الثقافية الواحدة، تبدت نتائج لتطبيق هذه الأفكار متباينة تماماً. في فرنسا على سبيل المثال، تتبدى لليبرالية والعلمانية نتائج مختلفة تماماً عن تلك التي تتبدى في المجتمعات الأخرى كالإنجليزية أو الإسبانية. فرنسا، رغم ليبرالية حياتها الظاهرية وتشددها العلماني الديكتاتوري، لا تزال في جانب آخر محافظة الطبائع، فالأسر الفرنسية على سبيل المثال أسر جمعية، لا تزال تعيش مع بعضها في منظومات كبيرة مشابهة للمنظومات الشرقية. في أمريكا لم تستطع علمانية القوانين ولا ليبرالية الأفكار أن تغلب المنظومة الدينية المفعلة بقوة سياسياً واجتماعاً واقتصادياً، وليس أدل على ذلك من أن معظم العطلات الأمريكية هي عطلات دينية، وأن الجدل حول تدريس الدين في المدارس لا يزال قائماً وبقوة لحد الآن، وأن الكنائس لا تزال تؤسس لمجتمعات منفصلة متشددة داخل المجتمع الأمريكي، بل وأن الرئيس الأمريكي يقسم على الإنجيل تدشيناً لتوليه المنصب. كيف تتعامل اليابان مثلاً مع الحركات النسوية؟ كيف تتفاعل مع مفاهيم الحرية الجندرية؟ لليابان أسلوب مختلف تماماً في التعامل والتجاوب مع هذه الحركات، وذلك تفاعلاً مع منظومتهم الأخلاقية والتقاليدية، التي هي المؤثر الأول على ردود أفعالهم. يحدثني صديق من السفارة اليابانية مثلاً أن المجتمع الياباني لا يمكن أبداً أن يعترض على الحرية أو التعددية الجندرية، وأن المناصب توعز لكافة الأطياف بلا تمييز، إلا أن موضوع التعددية هذا لا يتم الكلام حوله ولا الاعتراف به، ومقبول صمتاً لا نقاشاً.
وعليه، سيكون من السذاجة بمكان تصور أن تطبيق الليبرالية في الشارع العربي الإسلامي سيطلق الناس كالمجانين في الشوارع يتجرعون الكحول ويندمجون في علاقات إباحية، وكأن منظومتهم التقاليدية المتجذرة وفكرهم الديني العميق مجرد قشرة تنتظر نفخة هواء لتطير. من اللامنطقية بمكان تصور أن تفعيل المفاهيم النسوية سيرفع معدلات الطلاق ويفتح أبواب العلاقات المحرمة، بل ويشجع المثلية كما قال أحد أكاديميي كلية الشريعة في الكويت، وكأن كل ما تنتظره النساء هي طلقة الانطلاق ليتركوا بيوتهن متراكضات نحو الحريات الشهوانية المريضة. كيف يمكن لفكر متزن أن يتصور غلبة أي فلسفة جديدة كانت أو قديمة على المنظومة العاداتية والتقاليدية والدينية المتجذرة عميقاً في وجدان وضمائر الشعوب؟ وإذا كانت شعوبنا مهزوزة وضحلة لهذا الحد، أي محاولة إنقاذ ستكون ناجعة معها، وهل هي مستحقة لمحاولة الإنقاذ أصلاً؟ أم أن الغرض ليس إنقاذ الشعوب التي لها أن «تذهب لسابع جحيم» في سبيل ترسيخ سيطرتكم وتأمين قبضتكم على المصائر والرقاب؟
إن ما يحكم المجتمع حقيقة ليست القوانين، إن ما يحكمه ويلزمه الحدود المقبولة فعلياً هي العادات والتقاليد التي يفوق أثرها ذلك الذي للقوانين فاعلية وقوة. يخشى الناس كلام غيرهم أكثر من خشيتهم عقوبة القانون، ويسعون للحفاظ على سمعاتهم أكثر حتى من الحفاظ على سلامتهم القانونية. لا أدل على ذلك من النموذج الإماراتي، هذا الذي فتح باب الحريات الشخصية على مصراعيه والذي لم يؤثر ولا حتى طفيفاً في الداخل المجتمعي الإماراتي الذي استمر محافظاً متديناً منغلقاً على أسره ومنظومته الأخلاقية. وهل الانفتاح المصري قلل من تدين المصريين وجعل الخمور مثلاً موجودة في كل بيت؟ وهل العلمانية التونسية دفعت التوانسة للتخلي عن دينهم ومنظومتهم المحافظة الصارمة؟ ما يحكم الممارسات الاجتماعية الأخلاقية هي العادات والتقاليد والدين، أما القانون المدني فمهمته رفع درجة الحريات ليصبح المجتمع أكثر شمولية لكل أطرافه بتنوعاتها، وضمان أمن وسلامة المختلف وحماية القانون لاختلافه وحقه في التعبير عنه وممارسته. لا يمكن لقانون علماني أو فكرة ليبرالية أو حراك نسوي أن يقولب مجتمع بأكمله، بل إنه في الأغلب الأعم سيقولب المجتمع هذه الأفكار والتوجهات والتحركات والنظريات لتأخذ شكله ولتتناسب مقاساتها ومقاسات جسده الذي سيستقبلها.
كل نظرية وحراك وفكر إنساني له تعدداته وشطحاته وتطرفه. مهم جداً أن نكون طرفاً في المسيرة الإنسانية الفكرية، نشارك في تطورها، نساهم في تعديلها، ونسعى لقولبتها بما يناسب مجتمعاتنا وتوجهاتنا، وبما يضمن في الوقت ذاته، التعددية والشمولية لكافة الأطياف والتوجهات. بلا ذلك سنبقى على هامش الحياة، في موقف الدفاع دائماً، نلعب دور الضحية العالمية مراراً وتكراراً، والجزار الشرير لكل شاة مختلفة محلياً ومجتمعياً. نحتاج إلى أن نخرج خارج هذه الدائرة المريضة، وأن نثق في أنفسنا بعض الشيء، وأن نضع سيوفنا جانباً. مضى عهد السيوف، نحن في زمن الأفكار.