أن تكون ناشطاً حقوقياً، وهو لقب-لو تعلمون-عظيم وثقيل ومرعب، يعني أن تتجرد تماماً من تقييماتك الأخلاقية الشخصية، ومن رغبتك الإنسانية في الحكم على الآخر، ومن ميلك الفطري لتحكيم مبادئك وعاداتك وتقاليدك ودينك وإيمانياتك وحالتك الاقتصادية ومنظورك الاجتماعي وكل خلية في جسدك، على الموقف أو الحالة الإنسانية التي تتطلب وقفتك أو مساعدتك أو تدخلك. النشاط الإنساني يتطلب تجرداً فوق إنساني، يفرض عليك حياداً أشد من الممكن، ولا بد أن يكون ممكناً، حتى تستطيع أن تستوفي هذا النشاط حقه. فالمعنيون بهذا النشاط هم بشر، أرواحهم أحياناً تكون على المحك، أما قرارك في التعامل مع قضاياهم خصوصاً إذا كانوا من سكان منطقتك أو جزءاً من مجتمعك بحيث تكون أنت ممثلاً لهم أمام العالم، فقد يغير وجه حيواتهم ويقلب موازين النظرة العالمية لهم ولقضاياهم المصيرية.
لا بد أن تكون للناشط الإنساني مواقف ثابتة تجاه بعض المفاهيم الحقوقية المبدئية، وإن تضاربت مباشرة مع إيمانياته ومعتقداته ومبادئه. فالناشط الإنساني لا يمكن أن يساند الإعدام كعقوبة مطلقاً وتحت أي ظرف، ولا يمكن أن يرفض مساعدة شخص لا ديني مثلاً أو مثلي الجنس أو حتى مدان بجريمة كبرى. لا يمكن للناشط الإنساني أن يعلي مفهوماً أو قيمة فوق المفهوم أو القيمة الإنسانيين، ولا يمكن أن يُحَكّم منطقاً غير منطق الحق الإنساني الخالص، ولا يمكن أن يطلق مشاعر غضب أو رضا أو ينطق أحكام قبول أو رفض بسبب من توجه حياتي أو معتقدي أو اجتماعي، ولا يمكن له سوى أن يكون محايداً تماماً، وإنسانياً تماماً كصفحة بيضاء لم يسودها المجتمع بعد بأفكاره وإيمانياته ومعتقداته وتقاليده ومفاهيمه المختلفة.
تصعب هذه الفكرة على البشر عموماً، وتتمادى صعوبتها في عالمنا العربي الذي يعتاش على التقسيمات ويستمد هوياته من العلب التي يضع البشر فيها. اللطيف الحزين هو الكيفية التي يصد بها الآخرون محاولتك (التي غالباً ما تكون عسيرة وفقيرة) في الحياد، حيث يستخدم هؤلاء أقسى الأساليب وأكثرها ترويعاً نفسياً لصدك عن مبادئك الإنسانية. في نقاشي حول حكم الإعدام مثلاً (وأنا التي لا أدعي، وإن كنت أتمنى، استحقاق لقب الناشطة الإنسانية) لم تمر عليّ حالة نقاشية مثل مرور أصحابها، وقد ترقرقت أصواتهم، على سؤال: وماذا لو كان المجرم قد قتل ابنك أو اغتصب ابنتك؟ سؤال في حد ذاته رديء وخال من كرامة ورفعة النقاش، في محاولة لاستخدام أرق وأضعف مشاعرك الإنسانية للرضوخ للرأي الآخر. ودائماً ما يكون ردي: في هذه الحالة أود أن أقتل المعني بيدي وأقطعه بأسناني، ولهذا لا ينصبني النظام المدني المتحضر حكماً أو قاضياً على المجرم، ولا يطلق يدي في معاقبته، فالإنسان المكسور المجروح المصاب في أعز ما لديه، لا يمكن أن يكون حكيماً عادلاً وافر المبادئ الإنسانية. وعليه، فإن الحكم يكون لشخص محايد، قادر على أن ينظر للموضوع بموضوعية ومن منطلق المبادئ الإنسانية التي يفترض أن يتفق المجتمع المدني المتحضر عليها. لكن هذا الرد لا يشفي غليل الشرق أوسطيين، هؤلاء الذين لا يريح نفوسهم المتعبة سوى التطرف في المشاعر.. التطرف في ردود الأفعال.. والتطرف في الانتقام، هذا التطرف النابع عن كل التطرفات الأخرى التي تحكم حياتنا وتغلف نفوسنا بطبقة سميكة من الغضب والحنق والعنف المشاعري.
الحديث عن حقوق اللادينيين مثلاً، أو حقوق المثليين، أو حقوق المرأة، هو حديث شائك في عالمنا العربي، على المتحدث كما على المستمع، حيث يبدو كلا الطرفين ملجومين، أحدهما بلجام الخوف من العيب والحرام، والآخر بلجام الخوف من العقوبة وأحكام الناس، إلا أن هذا الحديث مستوجب من الإنسان الحقوقي، لا مفر منه، لا يمكن تفاديه أو الاستدارة من حوله، ومن يجد غضاضة في هذا الحديث أو يعتقد في نفسه تضارباً دينياً أو مبدئياً مع هذه الأفكار الإنسانية، فمن الأفضل له الابتعاد عن الحقل الإنساني الملغوم، حقل لا يرحم من يعمل فيه، حقل ستنفجر خطواتك فيه إذا ما حدت بها عن الحياد التام والإنسانية الخالصة من كل حكم أو مبدأ خاص أو معتقد ديني أو مفهوم مجتمعي.
أتمنى هذه الدرجة الخالصة من الحياد في نفسي، أضعها نصب عيني الهدف الأول والأهم في حياتي، مع علمي بأنني أتصارع وقوى أكبر مني آلاف المرات، قوى البرمجة المجتمعية، قوى عمق العادات والتقاليد، قوى السيطرة الأيديولوجية، والأهم والأشد، قوى التركيبة الجينية، هذه التي تبقيني كائناً بدائياً لا مفر له من تركيبته العقلية وصياغته البيئية وطريقه شبه المحتوم. أبقى أحاول.. ومن خلال المحاولة أتعلم كل يوم كم هي مفاهيمي وأفكاري-التي أعتدها تصيغ الدنيا بأكملها-صغيرة وعديمة الأهمية، مجرد ذرة في بحر من ذرات الأفكار والمفاهيم والمعتقدات، كم هو وجودي الذي أرى الدنيا فقط من خلاله، قصيراً وصغيراً وعديم التأثير، إلا إذا-وفقط إذا-أعطيته معنى (سيبقى ضئيلاً) من خلال إنسانيتي، إلا إذا أحدثت فرقاً، أي فرق، وهذه هي المهمة الأصعب في الوجود.