لم يمر في تاريخ الكويت السياسي والمدني جهاز حكومي كما الجهاز المركزي، لم نسمع خطابات مثل خطابات هذا الجهاز، لم يقدم رؤساء الأجهزة مقابلات مثل مقابلاته ولم تصدر من أي جهة من جهات الدولة بيانات أو عروضات مرئية كما بياناته وعروضاته. الحقيقة أن للجهاز المركزي، رغم كونه جهاز رسمي في الدولة، توجها ضغائنيا وترفعيا تجاه الأشخاص الذين من المفترض أنه معني بحل مشكلاتهم وإدارة أمورهم. يتكلم الجهاز المركزي في بياناته وتصريحاته دائماً عن مزايا وتسهيلات في إشارة لحقوق إنسانية أساسية لا تحتمل مطلقاً أن تكون موقع جدل، منها، مثلا، “مزية” توفير كفن للموتى ودفنهم في مدافن الدولة دون تكلفة. نعم، هذه إحدى المزايا التي لطالما صرح بها هذا الجهاز الرسمي في الدولة.
رئيس الجهاز المركزي، السيد صالح الفضالة، قد صرح في مقابلة تلفزيونية أجريت في سنة 2018 مع المذيع محمد الملا أن الجهاز المركزي الذي هو “سنامه عالي” يعتبر “ولي أمر البدون” وهو المسؤول عن كل صغيرة وكبيرة في شؤونهم الحياتية والمعيشية والسياسية، حيث أنه، وقد صدق في ذلك السيد الفضالة، يعلو صوت الجهاز المركزي على كل صوت آخر في الدولة، بل فوق أصوات الوزراء بحد ذاتهم في الأمور المتعلقة بوزاراتهم إذا ما كان المعنيون هم من البدون.
إلى هنا، نجد أن الوضع البدوني ليس فقط آخذاَ في التعقيد بل في الاتجاه الى دوائر مغلقة ومظلمة لا خروج منها. يمكن لوزارة الصحة مثلاً أن ترى حاجة الشخص البدون لعلاج فوري، إلا أن الجهاز هو الحكم الأخير في استحقاق البدون للعلاج، وهذا التوجه هو السائد في كل التعاملات الخاصة بالبدون، إلا أنه عندما يصل الأمر للتعليم، لشأن خاص بالصغار الذين هم للتو يبدؤون حياتهم والذين لا يد لهم فعلياً في هذه الكارثة الإنسانية السياسية لا من قريب ولا من بعيد، عندها نعلم أن التوجه “العلاجي” للمشكلة بدأ يأخذ منحى خطيرا.
على مدى سنوات الآن، يتم مقايضة البدون على حقوقهم في مقابل توقيعهم على صحة المعلومات الموجودة في أوراقهم أو المثبتة في بطاقاتهم المجددة لدى الجهاز المركزي وذلك قبل رؤية تلك المعلومات. امتدّ هذا الإجراء ليشمل الطلبة البدون، تسجيلاً في الجامعات والمؤسسات التعليمية العليا الخاصة والحكومية، ثم ليتعدى ذلك الى مقايضة الخريجين منهم على شهاداتهم. توقيعك إقراراً بمعلومة لم ترها أو بجنسية لا تعرفها مقابل شهادتك.
مؤخراً، تشكلت أكثر من حملة أطلقها الطلبة البدون كما وأطلقها أكاديميون كويتيون في محاولة لرتق هذا الشق العميق المخجل في تاريخ إدارة الشأن البدوني، هذه الإدارة التي توجهت الآن للصغار تقايضهم على شهادات عملوا من أجل تحصيلها لسنوات، شهادات هي من حقهم، ملك لهم، لا تملكها الدولة ولا الجامعة ولا أي جهة أخرى. فما أن يصدر إقرار باجتياز المتطلبات والتخرج، تصبح الشهادة حقا أصيلا، كما شهادة الميلاد وشهادة الوفاة، وكلتاهما في الواقع عصيين على البدون كذلك.
في عارض التفاعل مع هذه الحملات، أصدر الجهاز المركزي بياناً بتاريخ 7/7/2020 نشر على مواقع إخبارية رسمية يخاطب مدير جامعة الكويت بالتكليف الدكتور فايز الظفيري، مدبجاً فيه “فلسفة” عمله كجهاز وإنسانية تفاعله، وصولاً إلى الطلب من الإدارة الجامعية بتسليم الشهادات “للعدد القليل” من البدون المحروم منها، وكأن قلة العدد مسوغ أو مخفف من وقع هذا الحرمان والمنع عن هذا الحق الأصيل. يلوم البيان بشكل مباشر نوعاً ما جامعة الكويت وأعضاء هيئة التدريس على عدم قبولهم “حضور عرض مرئي بمقر الجهاز المركزي يتضمن شرحاً وافياً عن قضية المقيمين بصورة غير قانونية وبيان الدور الذي يقوم به الجهاز المركزي لحل تلك القضية…” حيث أنه “قد يكون هذا سبباً لعدم الإلمام بكافة ظروف وملابسات تلك القضية ومن ثم تقديم طلب تسليم شهادات التخرج من بعض السادة أعضاء هيئة التدريس متضمناً الاتهام بالتسويف والمماطلة، وهنا نود أن نؤكد على أن الجهاز المركزي على أتم الاستعداد لإجراء العرض المرئي سالف البيان.” هذا العرض المرئي الشهير يتضمن في افتتاحيته صورة لرجل يلبس “الشماغ” العراقي مع إشارة الى أنه “هذا هو الإنسان البدون.”
بعد ذلك، يشير البيان الى أنه
يعود البيان للتذكير بالأفضال الإنسانية والمزايا والتسهيلات، وهو الخطاب الغريب على أي جهاز رسمي في الدولة، أولاً بفرض حالة من المن على من تتم مساعدتهم وثانياً باعتبار الحقوق الأساسية مزايا وتسهيلات. يشير البيان إلى قلة أعداد الطلبة غير المستلمين لشهاداتهم، وهو عدد لربما لا يكون واقعيا نظراً لوجود عدد من الطلبة البدون من أصحاب الجوازات المزورة أو غيرها ممن لم يعد الجهاز يعتبرهم “بدون” وبالتالي لا يدخلون في هذه الحسبة. ورغم ذلك، لو كان المتضرر طالبا واحدا فقط لم يتحصل على شهادته المستحقة، ألا يكفي بذلك ظلماً وإثماً؟ بعد ذلك يوصي الجهاز بتسليم الطلبة شهاداتهم رغم انتهاء صلاحية بطاقاتهم على أن توضع الجنسية على الشهادة، بمعنى أنه فور استلام الشهادة والتوقيع عليها، يعتبر ذلك بمثابة إقرار من البدون بهذه الجنسية على نفسه. عدنا للمربع الأول.
ما لا يذكره الجهاز هو سبب عدم تجديد البطاقات، وهو تحديداً ذلك، قسر البدون على التوقيع “بياضاً” على صحة المعلومات التي سترد في البطاقة قبل حتى الاطلاع عليها، مما يعني الإقرار بأي جنسية سيقررها الجهاز على هذا الشخص. لذلك يمتنع البدون عن استلام البطاقات، ولذات السبب سيمتنع هؤلاء الشباب والشابات عن استلام الشهادات، استلام أي ورقة رسمية سيتطلب من البدون الإقرار بالجنسية التي يحددها الجهاز له على نفسه، حتى قبل علمه بنوعها. توقيع على بياض. والآن يطلب هذا من شباب وشابات صغار، للتو يتخرجون من الجامعة.
الجهاز المركزي على أتم الاستعداد لمواجهة البدون بالأدلة حول جنسياتهم، والسؤال هو هل تصح مناداة طلبة خريجين، لربما بعضهم لم يصل للسن القانوني، للحضور أمام الجهاز ومجادلتهم بالأوراق حول جنسياتهم؟ وهل هذا موضوع يحسم بالنقاش والإقناع؟ وهل يفترض أن يتعرض شباب صغار لتجربة مثل هذه تقايضهم على مستقبلهم وتواجههم بأوراق لا يعرفون فعلياً حقوقهم وإمكانياتهم القانونية في تداولها ولا كيفية التعامل معها؟
بيان الجهاز استدار دورة كبيرة وعاد لمربع الصفر، سيبقى هؤلاء الطلبة محرومين من شهاداتهم، وسيتراكم عدد المحرومين بمرور الوقت، وسيعاني الصغار وتقتل آمالهم في أمهادها وتُحرم الكويت عقولا فاعلة وقوى عاملة. وستبقى القضية بين يدي جهاز، بياناته مادحة للذات، رئيسه يعتبر الجهاز “ولي أمر البدون”، حلوله تنحصر في بطاقات ملونة والاستمرار بالضغط على الناس ومقايضتهم حقوقهم الانسانية بتوقيعاتهم، وشرحه للمشكلة موجود في عرض مرئي يبدأ بصورة لرجل لا نعرف من هو ولا ندري إن تم استئذانه لاستخدام صورته. الجهاز يفوت عامه العاشر وتنحصر الحلول والأوصاف والعروض في ذلك، ولا شيء غير ذلك.