بين كل هذه الأمواج المتلاطمة، وفيما يبدو، وعسى أن يكون غير ذلك، سقوطاً للديمقراطية والمدنية والدستورية كنتاج للثورات العربية، لا نستثني الكويت كأرض دوى فيها هذا السقوط، وفي خضم تصارع الطوائف وعودة العشائرية وتدني مستوى الحوار وهبوط قيمة الإنسان، بين كل هذا وذاك لا تزال هناك… سعاد.
الكل يعرف سعاد، ربما كل إنسان في العالم العربي يعرف سعاد، فقد صعدت خشبة المسرح ووقفت أمام كاميرا التلفزيون وقدمت فناً جميلاً على مدى أكثر من ثلاثين سنة، هي سعاد عبدالله، أتحدث عنها باسمها الأول لأنني لا أتحدث عنها بصفتها الشخصية ولكن بصفتها القيمية، برمزية اسمها وبما أصبح يمثله اليوم لمن يعرفها عن قرب أو بعد.
وعلى الرغم من أن دراستي تنصب في مجالي الفن والأدب، وعلى الرغم من إيماني الصارخ بقيمتهما الإنسانية بل بدورهما الريادي في تخليص البشرية من آلامها وآثامها، فإن الرؤية غير السمع، والتجربة غير النظرية.
قبل أيام، دعانا الاتحاد الوطني لطلبة الكويت، فرع أميركا، للمشاركة في حملة “لا يغلبك” لمساندة مرضى السرطان. كانت جولتنا في مختلف أقسام مركز حسين مكي جمعة تفقدية وتشجيعية للمرضى الذين يعانون هذا المرض العضال، وكان بيننا إعلاميون مشهورون، نواب مجلس الأمة، ناشطون في مجالات مختلفة، ثم كانت سعاد، وكانت التجربة الرائعة.
أدخل إلى غرفة المريض أو المريضة، ألقي التحية بابتسامة عريضة، أقدم وردة وأبادر بكلمات التمني بالشفاء والتشجيع على المقاومة واستحضار الأمل، يرد المرضى بابتسامة رضا وعرفان تعكس قلوباً صادقة شاكرة، ثم تدخل سعاد، فجأة تلتمع العيون وتتسع الابتسامة لتصبح مزيجاً من ضحكة مشرقة وصرخة فرحة، “سعاد؟ سعاد عبدالله؟ نحبك كثيراً، كم أسعدتنا زيارتك، كنت معك في المدرسة، تتذكرينني؟ ابنتي من عشاقك، ابني يشاهد كل أعمالك، نحن نحبك… نحبك”.
نتوارى جميعاً كخلفية باهتة لفن سعاد وقيمتها الإنسانية، ينسانا مضيفونا، فتتركز عيونهم على سعاد، فجأة تتلون الخدود وتتحرك الأجساد المنهكة، تدب الحياة وينتعش الأمل. الكل يشعر بصلة بينهم وبين سعاد، ذكرى أو موقف أو لقطة فنية أو كلمة هي نطقت بها قبل سنوات بقيت كلها روابط بين القلوب، صلة بينهم وبينها، علاقة لا ينخرها زمن، شيء ما أكبر منا جميعاً، من مراكزنا السياسية، شهراتنا الإعلامية، وحتى جهودنا الإنسانية.
سعاد كانت أكبر منا جميعاً، أهم منا مجتمعين. إنه الفن، هذا الرابط النفسي العجيب، الموصل الإنساني الأول، إنه الفن، أنقذ شعوباً، رفع حضارات، وحفظ تواريخ، إنه الفن، القيمة الأعلى في الحياة، المؤرخ الأول لها، الرابط الأعمق بين من يعيشونها.
شهدت بنفسي على هذه القيمة، رأيتها في عيون كل من استقبل سعاد، شعرت بها في أياديهم التي تحولت برودتها في يدي إلى حرارة أمل في يديها، تلمستها في دبيب الحمرة في الخدود والطاقة في الأجساد فور رؤيتهم لها.
وكانت الأستاذة الكبيرة تعلم هذه القيمة، فتواصلت مع الجميع، لم تخبئ يديها عن أي مريض، تواصلت بقبلاتها مع كل السيدات، مسحت على الرؤوس وأعطت الجميع الوقت الذي يريدون ليحكوا ويستذكروا ويذكروها، ربما بأشياء لا تذكرها، ولكنها تذكرتها من أجلهم فحكت واستمعت وكأن كلاً منهم صديق حميم وقريبة عزيزة.
فور خروجنا من غرف المرضى، كانت سعاد تنتحي جانباً لتمسح دمعة، أقف أنا متيبسة بجانبها، “يقهر قلبي ألمهم”، تقول لي، “زيارتك دواء يا أستاذة”.
ترفع رأسها، تمسح دمعتها، وترسم الابتسامة الكبيرة الشهيرة وتدخل الغرفة التالية، أتبعها، أتظلل بفنها، أتمسح بحب الناس لها، بصدقه وطهارته وصفائه، أتمنى هذا الرابط العجيب وأعلم أنني لا يمكن في يوم أن أحظى به، أقف بجانبها عله ينوبني من صدق المودة جانب، وعلني أتذوق بالتجربة المباشرة ما كنت أطبخه لطلبتي على نار النظرية سنوات طوال.
بعد مئة سنة من الآن، لن يخلد ذكرى الكويت اسم نائب في مجلس الأمة يبني شهرته بكلمات مثل الطابوق تقع فوق الرؤوس فتقتل، ولا اسم وزير أو مسؤول أو سياسي أشبعوا البلد تخطيطاً وتنكيلاً، سيخلد ذكرى الكويت فنانونها وكتابها وأدباؤها، سيذكر التاريخ سعاد ويغفل عن تعساء الزمن هذا.
«آخر شي»: عمي جاسم القطامي، اسم سيخلد الكويت وتخلده الكويت، لأنه كان إنساناً قبل أن يكون سياسياً، ولأن خطابه كان عميقاً وصادقاً قبل أن يكون رناناً، ولأنه كان ثورياً مخلصاً لمبادئه قبل طبقته الاجتماعية، تلك التي لم تدخل في حسبة أعماله ومواقفه في يوم.
رجل لن يتكرر، خامة إنسانية لا يمكن تقليدها، نبكيه وتفرده واستثنائيته في زمن غرق فيه السوق السياسي من رخيص البضائع… رحمك الله العم جاسم، شرفت الحياة، وأسرعت الغياب.