حتى تفهم وضعهم الحالي، عليك أن تتخيل الحياة بدون “سيستم”، بدون قانون واضح ومباشر يرتب حياتك وينتفض لحقوقك. تفاصيل الحياة الطبيعية التي يتعامل معها الآخرون على أنها تحصيل حاصل هي عراقيل ضخمة، أحمال ثقيلة، تارة تحملها على يمينك، تارة تنقلها إلى يسارك، لا تعلم كيف تسيرها، لا تدرك لها غرضا أو هدفا، تفاصيل متناثرة كأنها حبّات أرز لا تريد أن تتلملم في لقمة تُشبِع، حبات قاسية كلما حاولت جمعها فرطت من بين يديك، حياة هي فوضى أو فوضى هي حياة، تجري سريعة، تزحف بطيئة، تتجه بلا رحمة ولا هوادة نحو اللاشيء.
حتى تفهم وضعهم الحالي عليك أن تتخيل أن استخراج إجازة قيادة هي عقدة، وأن حجز رقم عند الطبيب هو إهانة، عليك أن تتصور أنك في مرحلة ما قد لا تستطيع حتى أن تمتلك هاتفا لاسمك، قد لا تتمكن من تعليم صغارك، عليك أن تفترض أن تجديد ورقتك الرسمية في البلد الذي تحيا عليه وأقام عليه أجداد أجدادك يتطلب توقيعاً منك على تعهد تعد فيه بأن تغلق فمك فلا تشتكي، تقر فيه بأن الحكومة دائماً على حق وأنت، إن نطقت، دائماً على باطل. تخيل معي، تجلس في بيتك الصفيحي في تيماء تشاهد التلفاز، فجأة يظهر لك اللواء يحلل مشكلتك ويحلها بكلمة، سيرسلك وعائلتك لجزر القمر. تتحسس صدرك، تخرج بطاقتك المهترئة من جيبك، خلفها مكتوب ما معناه أنها لا تمثل ورقة رسمية، تبتسم، كيف تصدر لي جهة في الدولة ورقة ثم تكتب عليها أنها غير رسمية؟ تحمد الله أنك تملكها في كل الأحوال، ترتعب من فكرة انتهاء صلاحيتها، تنظر للصغار، تنظر للسقف والجدران، تضيق الدنيا، تحوطك الكراهية والعنصرية، وأنت؟ ما ذنبك أنت؟ أتيت ولم يشاورك أحد في حضورك للدنيا، لم يخيرك أحد في أرضك أو أهلك، أتيت فوجدت نفسك في هذا البيت الصفيح، “مواطن ظل” تفوت الحياة فوقك في النهار ولا يراك أحد في الليل.
حتى تفهم وضعهم الحالي عليك أن تتخيل الجهة “الحكومية” المسؤولة عنك وهي تقترح عليك أن تشتري جوازاً “لتعدل وضعك،” عليك أن تتصور حكومتك وهي تحيلك “غير قانوني” ولكنها تطلب منك حل مشكلتك بنفسك، عليك أن تتصور أن زواجك لا يوثق إلا إذا رفعت قضية زنى، أن أبناءك لا تستخرج لهم أوراقا ولا يسجلون في مدارس إلا بعد “إثبات نسبهم”. هي الحياة على كفّ عفريت، تجد وظيفة اليوم، لا تجدها غداً، تستخرج ورقة اليوم، تمنع عنها غداً، تجد كاتباً طيباً يدخلك لطبيبك اليوم، تجد آخر قاسياً حاقداً يذلك ويهينك أمام المراجعين غداً، هي الحياة كلها مؤقتة، هي الحياة كلها مشتتة، ربما اليوم، وغداً قد لا يكون. بطاقتك خضراء أو زرقاء أو حمراء، أنت مجرد لون باهت على بطاقة لا تعد ورقة رسمية، أنت مشروع تهجير، أنت فكرة تزوير، يهجرونك من أرضك ويزورون أصلك ويجتاحون شبابك ويذلون شيباتك، أنت صفر مضاف على الشمال، أنت خارج الحسبة، أنت عنوان جريمة في جريدة، أنت خبر انتحار على “تويتر”، أنت الثروة الضائعة، أنت بئر النفط المحترق، أنت من لا يراك وطنك، لا يريد ولم يعد يستطيع أن يراك.
نجحتم في الانتخابات؟ ضمنتم المقاعد الحمراء؟ هلا فعلتم شيئاً واحداً يريح الضمير؟ هلا تخيلتم للحظات كيف هي الحياة على الضفة الأخرى من الحظ، فمددتم جسراً، أرسلتم قارباً، أو على الأقل رميتم بعض أطواق النجاة؟