تقع الأصوات الشريفة في عالمنا العربي تحديداً في مأزق أخلاقي ونفسي تجاه القضية الأوكرانية، فليس هناك من شك مطلقاً في الطبيعة الاعتدائية من روسيا على أوكرانيا في هذه الحرب البشعة، ولا في السقوط المدوي لشرف الخصومة ولبشاعة الفجور في تشخيصها على أرض الواقع، إلا أن النفاق العالمي العام خصوصاً من القوى الكبرى والعظمى في العالم تجاه القضية الفلسطينية يجعلنا جميعاً، وفيما نحن نتأسى من أجل أوكرانيا ونصلي لأطفالها ونتمنى خروجها منتصرة بمفاهيم الحرية والاستقلال من هذه الحرب الاستعمارية الاستعلائية القبيحة، مقروصين في قلوبنا، مهانين في كراماتنا، مستحرمين في ضمائرنا أن لماذا لم يقف العالم ذات الوقفة المتعاطفة مع فلسطين المحتلة لما يقرب من المئة عام الآن؟ كيف ومتى اعتاد الناس آلام ومآسي ومعاناة الفلسطينيين، صرخات نسائهم، اعتقال أطفالهم، ومشاهد النعوش المحملة على الأكتاف بشبابهم حتى أنه؛ أي العالم بمجمله، لا يستحي التعاطف مع أوكرانيا التي تمر بملمح من ملامح مأساة فلسطين فيما هو، متجاهلاً الأخيرة بنزفها الجارف المستمر؟
تقول آخر أخبار الحرب أن نحو 300 ألف أوكراني تم إجلاؤهم منذ بداية الحرب، فيما تستمر المفاوضات حول تشكيل ممرات إنسانية يُجلى من خلالها المزيد من نساء أوكرانيا وأطفالها، حيث أعلنت نائبة رئيس الوزراء الأوكراني أن الأربعاء 20 أبريل/ نيسان سيكون هو موعد فتح ممر إنساني من مدينة ماريوبول المحاصرة، وأن «هذا هو المكان الذي ستتركز جهودنا عليه اليوم» (سكاي نيوز العربية). يستحضر المشهد غزة المحاصرة، غزة الصامدة، ليس لسنة أو سنتين، ولا لعقد أو عقدين، بل على مدى عشرات السنوات، غزة التي يحاولون تحويط بحرها وتسقيف سمائها وكتم الهواء عنها، إلا أنها لا تزال تقف شامخة، يجدد أهلها هواءها ويدبكون أمام بحرها ويجدون بدل المرر الإنساني عشرات غيره لينفذوا من خلالها وليوصلوا الطعام والأدوية عبر ممراتها، الفرق أن هذه الممرات الغزاوية هي ممرات خفية، تحت الأرض، يختلف العالم حول «شرعيتها» فيما الممرات الأوكرانية تُعلن على الملأ ليحتفي بها الإعلام ودوله «الإنسانية». كيف لنا أن نشعر، نحن بقية الضمائر الحية في عالمنا العربي المهان والمستهان به، والمجتمع الدولي يطعن خاصرتنا بقوة بالصمت تجاه بل والتعاطف مع المحتل المتوحش، ثم يرش الملح على الجرح الغائر بهذا التعاطف المنساب العميق، وإن كان مستحقاً، مع أوكرانيا المكلومة بذات الأسى وإن كان بدرجات عدة أخف وقعاً وأقصر عمراً؟
نعلم أنها فجاجة المصالح السياسية التي تصنع هكذا تفاوت وقح في المواقف، نعلم أن المقصود هو روسيا وأن الدافع هو عداء سياسي مصالحي قديم، نعلم أنها لوبيات عالمية ضخمة تتضارب وتتصارع على أراضي الآخرين، وترقص انتصاراتها على جثث نسائهم وأطفالهم، ولكن هكذا درجة من النفاق والوقاحة تجعل الاستمرار في الموقف المبدئي من أوكرانيا صعباً مؤلماً، فبالنسبة لي شخصياً، كل مرة يهتز فيها قلبي لصورة مؤلمة من أوكرانيا، يوخزني ضميري مذكراً بملايين الصور الفلسطينية الحارقة التي أتى آخرها مصحوباً بصمت شبه عالمي مخز تجاه السرقة في وضح النهار، حين طرد المحتل الإسرائيلي أهالي حي الشيخ جراح، ثم أحياء أخرى لاحقة، من بيوتهم وبحكم محاكم إسرائيلية لا تقل فحشاً عن حكومتها، ووضع مكانهم مستوطنين بين ليلة وضحاها. لقد شهد العالم مشاهد لربما لم نكن نتخيلها سوى مسرودة من تاريخ غابر بعيد أو على صفحات الروايات، أن يُطرد أصحاب البيت في الشارع على مرأى ومسمع العالم أجمع ليأتي آخرون أمام أعينهم في تو ولحظة التشرد ليسكنوا البيت، ويجلسوا على أرائك، ويناموا في سرائر لم تنفض عنها روائح أصحابها الحقيقيين بعد.
لا شك في استحقاق مساندة الموقف الأوكراني، ولا مناص من إعلاء الصوت ضد المحتل الروسي المتوحش، هذا موقف مبدئي لا يحتمل القياس على مواقف أخرى، ولا المعايرة بنفاق التعامل مع القضايا المشابهة، لكنها الطبيعة الإنسانية، القلب والعقل البشريان غير القادرين على استشعار وفهم وهضم هذا التناقض الفج، غير المستطيعين لتجاوزه وإن كان من أجل موقف حق مستحق. حين ساند العالم الدولي (وإن على استحياء) الشعب السوري المُحْتَل من قيادته، أتى ذلك كرد فعل تجاه التدخل الروسي، ليعلن الآن الرئيس السوري في المقابل مساندته للهجوم الروسي على أوكرانيا، فهنيئاً للديكتاتورية صداقتهم الدموية. اليوم يأتي الموقف العالمي متعاطفاً مع أوكرانيا نكاية في روسيا كذلك، وعلى الرغم من ضبابية الموقف الروسي تجاه القضية الفلسطينية، والذي بدأ يتشكل مؤخراً في محاولة من بوتين لاستقطاب العنصر العربي بمساندة خجلة للقضية الفلسطينية، إلا أنه يبدو أن العالم لن يصحو ضميره تجاه الفلسطينيين المسروقة أرضهم في وضح النهار إلا إذا دخل بوتين كذلك في علاقة عدائية مع فلسطين. لربما هكذا عالم يتطلب هكذا لعبة وقحة، قلب الموقف البوتيني تجاه قضية فلسطين وتحوير موقفه المستحق منها، التضحية بالمساندة الروسية من أجل المساندة العالمية، ولكن هل تقويم المعادلة بسيط لهذا الحد؟
بأي وجه يشكل الأوروبيون والأمريكيون، تحديداً، مؤسسات إنسانية ومحاكم عالمية حقوقية، بأي جرأة يعلنون مواقف «مبررة مبدئياً» ويطلقون تصريحات «موزونة سياسياً» وهم عند كل اختبار تجاه الشعوب الأضعف يرسبون رسوباً مبدئياً أخلاقياً لا نهوض من بعده؟ حتى مواقفهم المعلنة سابقاً، التي يبررون من خلالها التعامل الرياضي والفني مع الأنظمة القمعية المحتلة، بضرورة فصل الرياضة والفنون عن السياسة تداعت الآن أمام موقفهم من «العدو» الروسي الذي لم يكتفوا فقط بأخذ موقف سياسي نافر منه وبإرساء الممكن من العقوبات عليه، بل أعلنوا كذلك قطيعة فنية ورياضية تجاهه. فلماذا كانت هذه القطيعة «رجعية» حين حاولها شرفاء العالم تجاه المحتل الإسرائيلي؟ وكيف أصبحت موقفاً مبدئياً في يوم وليلة تجاه المحتل الروسي؟ درجة النفاق هذه لم تكفرنا بمفهوم العدالة الإنسانية والموقف الدولي المستحق فقط، بل جعلت الوقوف الصلب مع القضية المستحقة موقفاً صعباً وثقيلاً. من غير الأخلاقي أخذ أوكرانيا بجريرة الموقف العالمي تجاه فلسطين، إلا أن ذلك لا يغير شيئاً من أن الموقف صعب التجزيء، عصي على الحياد. لحين يصحو العالم، سنبقى نذكر بهذا النفاق ونخلق هذه المقارنات والمقاربات مهما بدا أنها «خارجة عن نص» عذابات المعنيين. فإلى أن يلتفت العالم إلى المأساة التي خلقتها السياسات الفاجرة في فلسطين، ستبقى الدوائر تدور، والمجتمعات الأضعف تقع لقمة سائغة في أفواه القوى المتوحشة، وسنبقى نحن نُذَكِّر بأن الثور الأسود أُكل يوم أُكل الثور الأبيض.