كل شيء في الدنيا يتغير ويتبدل إلا الخطاب السياسي العربي ثابت في قدمه، باق بكليشيهاته، رصين التكرار، قوي الإقدام حتى لتكاد تصدق، وأنت ترى بأم عينيك المخالف المتناقض، ما يأتي في فحواه. المثير للدهشة هو أنه حتى الجمل لا تتبدل تركيبتها كثيراً، ذات الكلمات المستهلكة التي حفظناها جميعاً يعاد تدويرها مع كل خطاب رسمي يطل علينا، فكل الأنظمة العربية تحيي الديمقراطية وتسعى إلى القضاء على الفساد وتحارب الإرهاب، كل الأنظمة العربية تعمل ضد التطرف ولمصلحة الشعوب، كلها تستنكر وتشجب اعتداءات العدو الصهيوني (هذه تغيرت بعض الشيء في الحقيقة، فمعظم الأنظمة انتهت إلى أن أطلقت تنهيدة صغيرة بالكاد سمعت مع العدوان الأخير على غزة)، كل الأنظمة تسعى إلى توحيد الصف وتوفير الحياة الكريمة والنهوض بالعلم في بلدانها، أما حالنا المتردية فلا علم لأحد بمصادرها، لربما نحن ملبوسون أو معمول لنا عمل.
الغريب فعلاً هو أننا في زمن التواصل المباشر والنقل اللحظي، كلنا نعلم ما يدور، وكلنا نتداول المشاكل، ليس فقط في بيوتنا ودواويننا وملتقياتنا، بل أصبحنا نتداولها- مشاكلنا بفضائحها- على “تويتر” و”إنستغرام” وغيرهما من وسائل التواصل الاجتماعي، أصبحنا ننتقد بالعلن ونتراشق المصائب ونعلن الفضائح على رؤوس الأشهاد. ومع ذلك، كأن هناك حائطا برلينيا ضخما بيننا وبين الخطاب الرسمي، نحن نقول ثور، هم يقولون احلبوه، نحن نرغي ونزبد، والإعلام الرسمي يمتدح ويثني، نحن نقول طائفية وتطرفا وانتهاكا إنسانيا، والخطاب النظامي يقول مساواة وحرية واحترام أديان وحظوة إنسانية. وكأن بيننا عالم برزخ، فلا نتصل ولا نتواصل، كل يعيش في عالمه، قابلين جميعاً بوضعنا هذا ومتفهمين تماماً له.
أفرح أنا لبلدي طبعاً عندما يحظى بتكريم وإشادة، ولكن عندما تحتفل الدولة بجهاتها المختلفة، ومنها جهات إنسانية، بحصولها على مركز إنساني في حين لدينا عدد من أكبر المشاكل الإنسانية الحديثة من انعدام للجنسية، وانتهاك لحقوق العمالة، وانتقاص لمواطنية المرأة دون حتى الإتيان على ذكر هذه المشاكل ووجوب خلعها من جذورها وزراعة حلول دائمة مكانها، هنا يبدو الوضع سيريالياً، فمن جهة نحن نزعق بالمآخذ الإنسانية ومن أخرى نحن نحتفل بكون البلد مثالاً إنسانياً، شيء ما غريب يحدث، تضاد مقبول، تناقض مبلوع، مشهد عبثي يبدو فيه الشيء ونقيضه متساويين متوازيين والكل صامت يشاهد بهدوء.
سمو رئيس مجلس الوزراء قال في كلمته أمام الأمم المتحدة في أعمال الدورة الـ69: “الكويت ترفض الإرهاب والتطرف”، ولربما البلد بطبيعته المنفتحة هو كذلك، ولكن كيف يمكن لنا أن ننفي أن بعض الجهات في البلد كانت لفترة متورطة في مشاكل تمويلية للإرهاب، وأن الكويت صدرت بعض أهم الشخصيات المتطرفة لربما أشهرها وليس آخرها من كان المتحدث الرسمي لـ”القاعدة”؟ لست هنا أقول إننا يجب أن نولول على المصائب ونجلد الذات دون هدف، ولكنني أقول، ونحن وسط معمعة من المشاكل وفي استقبال حدث سعيد كالحصول على لقب مركز إنساني، إنه يتوجب علينا على الأقل أن نشير إلى مشاكلنا الداخلية بكل صراحة ووضوح، وأن يقدم النظام وحكومته عدداً من الوعود القوية المؤثرة التي من شأنها أن تقلب الأوضاع، وتنهي بشكل جذري الكثير من المشاكل على الأقل المتعلقة باللقب الذي حصل البلد عليه. في العديد من الاجتماعات وبعض القمم والدورات التي حضرتها، دوماً ما كان الخطاب الغربي صريحاً لحد الإبهار. لم أسمع مسؤولاً يشيد بالمنمق من الكلمات ببلده، الكل تقريباً بلا استثناء كان يستجلب المشاكل ويعترف بالنواقص، بل بدور بلده في الأحداث العالمية السلبية الكبرى، وينتهي الى قطع وعود بالعمل الجاد على الإصلاح. تتخذ حكومات هذه الدول من أي فرصة للتكريم لاستعراض أوضاعها بصراحة وقطع وعود جديدة، في حين أن مسؤولينا يستغلون أي فرصة تكريم لنظم قصائد الشعر في مثاليتنا، قصائد مكسورة الأوزان لم يعد يصدقها أحد. لن تنصلح الحال لأنه من أجل الإصلاح يجب أن نلتقي، ولكن كيف اللقاء ونحن في واد والأنظمة على قمم الجبال؟ كيف الإصلاح ونحن نشكو ونرغي ونزبد والحكومات تقول، ذكروا الله، ما في إلا الخير؟ وكيف نحقق مركزاً إنسانياً والتعليم الخاص يطلق تصريحاً حول “إزالة المعوقات أمام الطلبة البدون” بتفاصيل ليس فيها واحد حقيقيا؟ نعم أنتهي تحديداً بهذا التصريح لأنه “أيقونة” في تعاملنا مع المشاكل، لأنه مثال لوضعنا للحلول: المشاكل غير موجودة، والحلول نفدت من زمان، وكل الشكاوى هي من رؤوسنا وضرب من أوهامنا، نحن نعيش مشاهد سيريالية عبثية لم يكتب مثلها ولا حتى سامويل بيكيت في زمانه.