لطالما كانت الحرية وتقرير المصير هما فَقْد المرأة الأول ومعركتها الأولى، فنحن النساء نولد بحريات مغلولة، «من تحاول فك أغلالها، مفقودة، مفقودة»، نولد بمصائر مقررة مسبقاً، من تحاول تغيير مساراتها تعتبر منحلة، خارجة عن القيم العاداتية والدينية التي قررها الذكور منذ بدأ الزمان. يتذوق الرجال طعم فقد الحرية وتقرير المصير تحت ظروف استثنائية، إبان زمن العبودية، في أوقات الحروب والأسر، أو في حالات القمع السياسي والسيطرة الاقتصادية، وهي ظروف تعانيها المرأة كما يعانيها الرجل، أما النساء فيولدن فاقدات لحاسة تذوق هذه الحرية وذاك التقرير للمصير، بالنسبة للنساء هذا الفقد هو القاعدة لا الاستثناء، وهو الطبيعي لا الشاذ.
وحين حلل لي صديق المحاولة الإيرانية النسوية للتحصل على الحرية وحق تقرير المصير على أنها محاولة محدودة مصيرها الانطفاء، أنها أبداً لن تشتعل إلى ثورة تامة وكاملة نظراً لمحدودية موضوعها وللضعف الطبيعي للقائمات عليها، شعرت أن هذه الدنيا بأرضها وقاراتها وبحارها ومحيطاتها لا تسعنا، ليس لنا نحن النساء مكان حقيقي وإنساني فيها. لقد اشتعلت الثورة التونسية لتمتد ألسنتها لعدد من الدول العربية مفسحة المجال لربيع عربي كان على وشك أن يكون وما كان، وتلك قصة أخرى، على إثر صفعة وُجِّهت لوجه رجل، ولربما كذلك لأن من نزلت بها على وجهه كانت امرأة، فما بال نساء الدنيا يَمُتْن على أيادي ذكورها، أو بمعية الأفكار الذكورية الشوفينية، كل يوم فلا يهتز للبشرية جفن، ولا نرى سوى دخان خفيف لا يبشر بالنار التي نرغب ونستحق؟
لقد قُتلت مهسا أميني على أيدي الشرطة الدينية النسائية، عضواتها نساء بأجسادهن وذكور بعقولهن، لأن غطاء رأسها لم يتسق والشكل المفروض، لم يرضخ لقراءة المجتهد وتفسير الشيخ وأمر المرشد، غطاء لربما ارتفع قليلاً، أو انخفض قليلاً، أو انزلق على شعر فاحم، أو تدلى على كتفين ناعمتين، وإذا ما سُمِح بقليل «الانحلال» سيغمرنا غداً كثيره، فيغرق الرجال في استعار رغباتهم التي، يا حزننا عليهم، لا يستطيعون التحكم بها أو تحجيمها، مما يعني احتمالية سقوطهم في المحظور، ونحن في هذه الدنيا كلنا نقف خدمة للرجال، كلنا يجب أن نجند أنفسنا لحمايتهم من الشهوات والسقوط في المعاصي وذلك لإيصالهم للمكانة التي يستحقون في الجنة، حيث أنهار الخمر والآلاف المؤلفة من حور العين. أما النساء اللواتي تخلين عن الحرية والسعادة والانطلاق في الحياة، فلهن في الآخرة، ثواباً لهن على عصمة الرجال من الزلل وإيصالهم للجنة بحجب أنفسهن وحماية الرجال من أنفسهم وشهواتهم، لهن أزواجهن، الذين لهم آلاف مؤلفة من الحور العين. هكذا يفسر الذكور نظام الأخلاق والثواب والعقاب في الدنيا وصولاً للآخرة، نظاماً على مقاسهم تماماً.
سقطت مهسا أميني أمام أعيننا في الفيديو المنشور، فهبطت عليها الادعاءات والإشاعات المبتغى منها تطهير وجه الشرطة الدينية، هذه التي لم يكفها فقد أميني لحياتها، هي تحاول كذلك انتزاع سمعتها عنها. سقطت مهسا فخلعت نساء إيران أغطيتها وأحرقتها، وقصت شعرها علناً وأشعلت النيران فيها، وانضم رجال حقيقيون لهؤلاء النساء الحقيقيات وخلقوا حالة، نحاول نحن من بعيد أن ننفخ بها لتشتعل ثورة، ثورة إما أن تغير النظام القمعي وتحرر النساء الراسخات تحتها ومعهن نساء الدنيا كلها، أو تضرم فينا جميعاً النيران لننتهي وتنتهي عذاباتنا.
سقطت مهسا ومعها سقطت المروءة والشهامة حين روج الذكور لملوثات لسمعتها في محاولة لتنظيف وجه ذكوريتهم الأغبر، إلا أن الإيرانيات والإيرانيين الأحرار أعلنوها لفاقدي الشهامة والمروءة أن «بلوا ملوثاتكم واشربوا مياهها،» فما عاد لها معنى أو تأثير أمام فقد شابة لحياتها، لفرصتها أن تعيش وتختبر الدنيا وتأخذ نصيباً حقيقياً منها. فلتذهب السمعة للجحيم، يقولها الثوار، أمام حياة اغتالتها قيودكم وأفكاركم التي تستعبد الناس، النساء تحديداً، و»متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟» أليست النساء أناساً؟ ألم يولدن أحراراً؟ لربما لا، نحن لا نولد حرات، ولكن حان الوقت لأن نغير ذلك، لأن نحول هذه العبودية التي تتشكل مع أّجِنَّتنا الأنثوية إلى حرية، الحرية التي نستحق كبشر والتي من أجلها تقوم الثورات وتقدم التضحيات.
رحم الله مهسا وأشعل نيران فقدها وألسنة غضب الثائرين لها في هذا الفكر الخائب الذي قتلها، في هذه الأيديولوجية البشعة التي لم تر في مهسا أكثر من خصلة شعر هددت «ورع» الذكور وفرصهم في الوصول للجنة. ها هي مهسا ماتت، هل ستصلون الجنة الآن؟