في 28 إبريل 1937 قصف السلاح الجوي الألماني مدينة غارنيكا، العاصمة التاريخية لإقليم الباسك الأسباني (مع الاعتذار عن التعريف الجغرافي حيث أنه مختلف عليه وبعمق تاريخياً وسياسياً) دون أي سبب سياسي أو عسكري. فما هي القصة؟ كانت وقتها القوات الفاشية الثورية الأسبانية بقيادة الجنرال فرانشيسكو فرانكو تحاول الإطاحة بالحكومة الأسبانية الليبرالية، حيث قبل الجنرال مساعدة القوات الفاشية الألمانية والإيطالية للإطاحة بحكومة بلاده في مقابل “شرط صغير” تمثل في تقديم الجنرال فرانكو لمدينة أسبانية للقوات الفاشية لتجرب عليها سلاحها الجوي ولتختبر مدى الدمار، في المباني والأرواح، الذي يمكن لهذا السلاح أن يُحدثه. وقد كانت مدينة غارنيكا هي الضحية، حيث قصف السلاح الجوي الألماني المدينة بالكامل في يوم 28 إبريل ليسوي مبانيها بالأرض وليذبَّح معظم سكانها المدنيين.
ترى من قدم غزة ولمن؟ هل قدمت أمريكا غزة لإسرائيل الصهيونة أم هي إسرائيل التي قدمت غزة لأمريكا؟ حين النظر في صور مدينة غارنيكا العريقة بعد جريمة القصف، لا يمكن أبداً تفادي التفكير في غزة والصور الرهيبة القادمة من أراضيها الآن، لا يمكن أبداً تجنب النظر في توازي الأحداث والنتائج، لا يمكن أبداً الابتعاد عن الحقيقة الراسخة لمجتمعنا البشري: أن الفاشية لم تمت رغم كل الدرجات الحضارية التي صعدناها وأنها في الغالب لن تموت ما بقي جنسنا المتوحش حي يرزق. الفاشية والعنف والوحشية هم الأصل، هم الغريزة، وما تاريخنا البشري القصير المسكين سوى محاولات متواصلة للتغلب عليها أو، على الأقل، التخفيف منها.
لماذا غزة، ولماذا الآن؟ نظريات كثيرة قدمها الخبراء والمراقبون للمشهد، منها أن غزة بموقعها الاستريتيجي ستحل مشكلة معبر بحري مهم للكيان الصهيوني وستقلل من أهمية قناة السويس بالنسبة لهم، ومنها أنها مخزن لثروات معدنية مهمة يستهدفها العالم الغربي بواسطة خادمه الصهيوني المطيع المجاور لها ومنها أنها المصدر التهديدي الدائم لبركان الثورة الذي يعلم الصهانية أن الانفجار القادم المدمر سيكون منها إلى آخرها من الأسباب السياسية والاقتصادية والجغرافية. وعلى الرغم من أهمية فهم السبب، إلا أنه حقيقة لا يمثل سوى خلفية معلوماتية، خلفية ما عاد العالم مهتم كثيراً بتداولها نظراً لبشاعة المشهد القائم أمامها، خلفية خسيسة لجريمة تطهير عرقي سيريالية لا يمكن أن يكون لها دافع، ولو كان شريراً أو لا أخلاقياً، مقنع أو منطقي، لا يمكن فهم هذا الدافع حتى من زاوية الشر وحتى لو كان مبنياً على مصالح ومنافع وأنانيات وأطماع، ذلك أن ما يحدث في غزة لا يدمرها فقط ولا ينقل خيراتها إلى المعتدي الغاصب فقط، ما يحدث في غزة، إذا تم تمريره وطيه طي مرور الزمن والنسيان، يدمر البشرية كافة: يؤسس لمبدأ فاسد خطر جداً على الإنسانية، يصنع فجوة بيئية كارثية، يصنع تاريخاً دموياً لا يمكن أن يُمحى، تاريخ يخلق ريبة تجاه المفهوم العلمي للطبيعة البشرية الغرائزية لحب الحياة والرغبة في البقاء. ما يحدث في غزة تحديداً وفلسطين عموماً، يشككنا جميعاً في “المنظومة المدنية الحضارية” مصدر فخرنا واعتزانا البشري، كما ويشككنا في طبيعة جنسنا الهوموسيبيان برمته، على أي درجة من الوحشية والغباء هو جنسنا والتي لا نود أن نعترف بها؟
لم يكن هناك دافع لجريمة إبادة غارنيكا، وليس هناك دافع لجريمة إبادة غزة، لا توجد دوافع مفهومة ولو من منطلقات أنانية مصلحية بحتة، إنما تلك حركات إجرامية وحشية تخرج خارج نطاق المعقول الإنساني بكل أنانيته وتعصباته وسقطاته. ما يحدث لغزة، تماماً كما ما حدث لغارنيكا، يجعلنا نؤمن إيماناً مرعباً بأن البشرية قادرة على الخروج عن غرائزها إلى حيث الأسوء والأكثر شراً، متمكنة من الذهاب إلى مراحل في الوحشية تخرج عن نطاق إمكانيات جنسها، ومستطيعة الانفصال عن وعيها حد الإغراق في عملية إبادة وقودها جنون عام وانفصام تام في الشخصية والوعي البشريين ونتاجها سجادة من أجساد الأطفال يمكن لها أن تفترش الأرض كافة قبل أن تنطوي بداخلها. ليس هناك أي منطق، ولو حتى شرير أو أناني لما يحدث في غزة، إنما هو منطق يخرج عن الفهم والغريزة والوعي البشريين، منطق مدفوع بدافع وحشي بارد أشبه بفيروس يأكل العقول والأجساد، ليجعل البقية الباقية منا مستمرين في الحياة مثل “الزومبيز،” أجساد بلا عقول أو قلوب.
إذا لم يقف جنون القتل الفاضح وضح نهار العالم في غزة فورياً، فإنه سيلتهمنا كلنا، سيحولنا إلى وحوش تأكل بعضها البعض وتموت مسمومة، لتبقى بقية باقية “قوية” تحيا كأجساد بلا أرواح.