حقيقة ما عاد لأحدكم قيمة اليوم، بسنتكم وشيعتكم، فقد صغرتم أمام الأجساد الصغيرة المسجاة، بكل اختلافاتكم وتواريخكم وآرائكم ونظرياتكم، بجنتكم وجحيمكم، ما عدتم مهمين، تضاءلتم أمام الدماء والموت، أمام رأس صغير يطل من أسفل الركام، ابيضّ شعره قبل أوانه، ليتكم كلكم، بخطبكم وعنفكم وصراعكم ووعودكم وتهديداتكم، كلكم ذهبتم، وبقي، ولو فقط، هذا الصغير.
وكان الاعتصام، وعلى الرغم من كل التوقعات، ولأن إنسانية القضية في أعلى مستوياتها وبشاعة المجزرة في أقصى مداها، فقد أردت أن أكون يومها هناك، مع القلوب المحروقة والنفوس المفجوعة والضمائر الواعية لعمق المصاب وفداحة الكارثة. وعليه، فقد وضعت التوقعات في مستصغر القوالب، ونحّيتها على جوانب الحدث، فكل نشاط له المسيئون إليه، والتغاضي هو المطلوب خصوصاً عندما تعتلي الكارثة هذه المراتب المخيفة.
وقفنا هناك أمام موقع السفارات من جهة البحر في يوم 14 ديسمبر نعتصم من أجل حلب، تجمعت الرؤوس ملتفة بحزن صادق، رُفِعت الصور واللافتات، تبادلنا أحاديث جانبية حزينة، رجالاً ونساءً كنا وقوفاً، جمعنا المصاب الجلل وألم الضمير. وفجأة بدأت الكلمات، فبدا وكأننا عدنا إلى القرن العاشر الميلادي، تعالت الخطب الرنانة بتعابير مثل “يا أهل الشام، إن الله ناصركم أينما كنتم على أعدائكم” و”إن الله عز وجل قد أذن لأرض الشام أن ترفع فيها راية الجهاد”. طبعاً تطعم الخطاب، وأعتذر مقدماً عن سردي الذي أجده هنا ضرورياً، بما لذّ وطاب من الكلمات البذيئة من “كلاب إلى أذناب إلى عهر”، مروراً بـ”العملاء والخونة والحشرات” دون تفويت أي فرصة لذكر كلمة “نعال” بين الجملة والأخرى، وصولاً في النهاية إلى رفع الأحذية والبصق من فم النائب الفاضل الورع وليد الطبطبائي.
المصاب جلل، لربما أحد أكثر الجرائم الإنسانية ترويعاً في العصر الحديث، ولكن هل البذاءة وسيلة دفاع؟ وهل التعريض الطائفي فرض عين في هذه الحالة؟ حاولت أن أثبت في مكاني منتظرة كلمة ما ذات حس إنساني، جملة تشير إلى دور المجتمع الدولي كله، فحوى يتعدى الحيز الضيق الطائفي المريض، رؤية تبتعد لتشمل المنظر العام ببشاعته الكاملة بعيداً عن الرؤية السنية الشيعية، ولكن أكاد أقول هي كلمة أو اثنتان اللتان استطاعتا أن تستثيرا فحوى إنسانياً وعلى عجالة، غير ذلك، كان شتماً وبذاءة، أحذية وبصقاً، نداءات وصرخات، لا تضر فقط بالعلاقات مع “الدول الصديقة” كما يشير القانون، بل هي تنحرها نحراً، ترى هل سيتم رفع قضايا اليوم، مع اعتراضي عليها ووقوفي مع التعبير الحر بالطبع، أم الكيل هو بمكيالين؟ نعلم أن المكيال مكيالان، والمقياس مقياسان، ولو لم يكونا كذلك لكان بالإمكان الخروج اعتصاماً من أجل قتلى اليمن، ولكنها الدنيا كذلك، تسير على جانب واحد من عجلاتها، لا تستوي متوازنة إلا فيما ندر. لذا نعلم أن المسيء إلى هذا ليس كالمسيء إلى ذاك، وأن الطفل المنحور هنا ليس كالطفل المنحور هناك، وهذا ينطبق على الطرفين، فحتى الطرف المأزوم، حين تأتي لحظة نصره ينسى معاناته ويبرك على آلام الآخرين متشفياً، غريب هو جنسنا وحزين.
المهم هو أنني ذهبت لأقف مع إخوة لي وأخوات، فرقتنا الأيديولوجية وأسلوب الحياة وجمعنا الألم والقهر وقلة الحيلة تجاه أهلنا في الإنسانية الذين ينحرون اليوم في سورية بدم بارد، إلا أنني وجدت نفسي فجأة في سوق عكاظ قبل ألف سنة، لا الجمل لها معنى في حياتنا اليوم، لا الإشارات لها فحوى حقيقي، لا الصراخ له منطق، لا الهتاف له رسالة، ضجيج محشو ببذيء القول وعنيف اللفظ والفعل في حالة من الغضب الذي بدا طائفياً خالصاً منفلتاً، الهدف منه التنفيس الحاقد وإثارة الجمهور أكثر منه إرسال رسالة إلى العالم وتحديد مطالبات واضحة. مَن المتضرر مما سمعنا؟ موسكو أم طهران، أم الشباب الذين كانوا واقفين يسمعون، متشبعين بالعنف، مستمتعين بالشتم كوسيلة تنفيس وانتقام؟ ما الذي سيتغير؟ سياسات بوتين وروحاني، أم سياسات الشباب في التعامل مع الكوارث وأسلوبهم في التصرف إبان النكبات؟ أتصل الشتيمة إلى “حزب الله” أم تصل إلى الشباب والشابات الواقفين في الاعتصام فتغير نفوسهم ومستوى حوارهم وطريقة تفكيرهم وتعاملهم، فتضعفهم وتهزم الفعل والحجة لديهم وتحكرهم في الكلام البذيء الذي لا معنى له ولا نتيجة؟ ليس السؤال هنا “هل المجرم يستحق”، لكن السؤال هو “هل كلامك يليق بك وهل أدى الغرض المطلوب؟”.
في الواقع كان الاعتصام يحتاج إلى شيء أقوى مما كان، نعم أقوى، فالقوة ليست شتيمة، القوة ليست حذاءً يلقى أو بصقة ترمى، القوة هي إصرار، حجة، نداء لا يمكن للإنسانية أن تغفله، القوة هي أن تجعل المستمع يخجل من نفسه لا من كلماتك الفاحشة، القوة هي أن تجبر المتلقي على أن ينتبه إلى فداحة المصاب لا إلى فداحة الغضب والغل في قلبه، تلك هي القوة التي ذبلت تحت وقع السباب والعنف الطائفي، واللذين لم يتجليا في الاعتصام فقط، بل تبديا في وسائل التواصل الاجتماعي قبل وبعد الاعتصام، تغريداً قبيحاً ومن الطرفين. فأي بشر هذا الذي يجد في نفسه مكاناً ليحتفل بنصر سياسي على جثث الأطفال؟ أي إنسان فرغ من إنسانيته يهنئ بانتصار طاغية يفتح النار على أهل بلده وإن كان انتصاره يعني دحراً لجوقة إرهابية معه؟ أي قلب، أي أعصاب أي ضمير تجعلك أيها “الرافضي” تحتفل والأطفال لم يدفنوا بعد وتدفعك أيها “الناصبي” إلى الدعوة بين شتائمك إلى تسليح وجهاد في منطقة تشتعل ناراً وتنطفئ موتاً؟ كيف تحتفل بنصرك هنا أيها “الرافضي” وتبكي أطفال اليمن، وكيف تبكي أطفال سورية هنا أيها “الناصبي” وتفرح بأطفال اليمن؟ تستحقون ألقابكم ويستحق بعضكم بعضاً.
حقيقة ما عاد لأحدكم قيمة اليوم، بسنتكم وشيعتكم، فقد صغرتم أمام الأجساد الصغيرة المسجاة، بكل اختلافاتكم وتواريخكم وآرائكم ونظرياتكم، بجنتكم وجحيمكم، ما عدتم مهمين، تضاءلتم أمام الدماء والموت، أمام رأس صغير يطل من أسفل الركام، ابيضّ شعره قبل أوانه، ليتكم كلكم، بخطبكم وعنفكم وصراعكم ووعودكم وتهديداتكم، كلكم ذهبتم، وبقي، ولو فقط، هذا الصغير.
طبعاً تخلل الاعتصام دعوات مستمرة إلى الجهاد، لتمويل فصائل المعارضة في سورية وتزويدها بالأسلحة، لم تكن المطالبة بالوقف الفوري لإطلاق النار وعزل النظام ومحاكمته، كانت المطالبة بتسليح المعارضة، بالجهاد، طبعاً في مقابل المطالبة الأخرى بمساندة النظام، غير مهم من هم في المنتصف، نحتسبهم طيوراً في الجنة، أيا زبانية جهنم.