ضحايا العدوان الصهيوني لا يتساقطون فقط في غزة والضفة، بل يتساقطون حول العالم كله. ضحايا العدوان الصهيوني ليسوا بشراً وحجراً فقط، ليست هي الأجساد والأشلاء والبيوت والمستشفيات والمدارس التي تضمها فقط، بل كذلك الأفكار والمبادئ والمثل والرموز التي حملتها على عاتقها وروجت لها وباعتها لنا فاشترينا بلا حساب.
سقط بياعو الأفكار ويا لها من سقطة مدوية مفزعة! سقطوا بهدير يصم الآذان تماماً كما هدير الصاروخ ساقطاً على البيت المجاور، ولماذا المجاور؟ لأنه وفق خبريات أهل غزة، لا يسمع قاطنو المبني الواقع عليه الصاروخ صوته، فصواريخ اليوم التكنولوجية المتطورة التي تقصف بها أمريكا من خلال الجيش الصهيوني أطفال غزة هي أسرع من الصوت، لذا من يُقصف بها لا يسمعها، ومن يسمع صوتها يعرف أنه ناج منها، ويدرك في الوقت ذاته أنها أصابت آخرين بأطفالهم ونسائهم ورجالهم وعجائزهم، هي دوامة من الشعور براحة النجاة وألم عذاب الضمير، التي لا تنتهي.
تماماً مثل هذه الصواريخ التي تدك البيوت وتعجن الأجساد بداخلها بلا رحمة، يسقط بعض المفكرين، لربما الكثير منهم وبعدد يفوق توقعاتنا وبدرجة تفوق تحملنا، بعنف انفجاري يدك كل المبادئ والأفكار والمثل التي كانوا يروجون لها، كل الصور التي كانوا يرسمونها لأنفسهم، كل الإنسانيات التي كانوا يدعونها لتوجهاتهم، لتبقى أسفل كل تلك المثاليات المتداعية أشلاء احترامنا ومحبتنا وإيماننا بهم. سقط هؤلاء كالقنابل الفسفورية، حارقين ليس فقط المبادئ الإنسانية التي طالما ادعوها، إنما كذلك احترامنا لهم وتقييمنا لمكانتهم وكل درجة ثقة أوليناها ذات يوم لأصواتهم المشبوهة القبيحة. سقطوا بكذبهم فأحرقوا ادعاءاتهم واحترقوا معها، غير مأسوف ولا مترحم عليهم.
حين أرسل لي زوجي صباح الخميس تغريدة ريتشارد دوكينز، العالم والمفكر الذي طالما تابعت كتاباته ومقابلاته ومناظراته التي وجدتها عظيمة في تحديها ومنطقها، وهي التغريدة التي يتمنى من خلالها لو أنه استطاع أن يسير في مظاهرة مؤيدة لإسرائيل، شعرت ويا لتفاهة شعوري هذا! بخيانة شخصية، بهزيمة فكرية، وبأزمة وجودية متجددة متفاقمة مع كل يوم من أيام عذابات غزة التي تمر علينا. في الحقيقة لم أكن في يوم من دعاة صنع الرموز، كما أنني لم أنظر لمن شكلوا قدوات علمية وشخصية لي في الحياة على أنهم كائنات فوق بشرية موضعها فوق قاعدة رخامية غير قابلة للمعاينة أو النقد، لكنني في النهاية بشر؛ أتبنى فكرة وأؤمن بها وأجاهد من أجل نشر «فائدتها» وفق اعتقادي، وأتحطم بالتأكيد حين تسقط رموز الفكرة وحاملو لوائها، وأجاهد نفسي حتى لا آخذ الفكرة بإثم الساقط بها.
ودوكينز صاحب المقولة الشهيرة أن البشر لربما أتوا للحياة عن طريق التطور الدارويني لكنهم غير مجبرين مطلقاً على العيش في مجتمع دارويني يأكل فيه القوي الضعيف، هذا الرجل الذي طالما أبهرني بشرحه وتفصيله للنظرية الداروينية وبمقابلاته العلمية الرصينة في إثبات فاعلية وواقعية النظرية وفي الوقت ذاته ضرورة محاربة مخرجاتها الغريزية التي تُخلي البشر من إنسانيتهم وأخلاقياتهم… هذا الرجل يؤيد إسرائيل.
في لحظة اختلطت النظريات والأفكار بقائلها، وهوت كل المبادئ والأفكار والفلسفات النقدية التي طالما آمنت بها في هوة عميقة سحبها إليها دوكينز بسقوطه المدوي فيها. منطقياً، أعلم أن الأفكار والمبادئ لا ترتبط بالأشخاص، وإلا لهوت أعظم المبادئ والمثل الإنسانية في كل لحظة مع زلات البشر الذين لا يمكن لهم أبداً أن يجاروا مثاليتها، ومنطقياً أعلم أن دوكينز العالم الرصين ممكن أن يكون، إنسانياً، عنصرياً بشعاً فاشلاً في مقاومة أحكامه المسبقة المترسبة في نفسه، أعلم كل ذلك وأكثر، إلا أن لحظة الانفجار وما يتبعها من انهيار للصروح لا تختار الهدف الصحيح فتنفجر فيه دون غيره، ولا تركز على الخطيئة فتستهدفها دون غيرها، لحظة الانفجار تأخذ كل شيء معها: المفكر وفكرته وكتبه ومثالياته وذكريات التعرف عليه وقراءة كتبه وجهود الكتابة عنه وتحليل نظرياته وساعات الحديث عنه والنقاش حول أفكاره، كل هذا يتداعى في لحظة الانفجار، كل هذا يختفي أسفل ركام الزيف والتعنصر والوحشية، كل هذا يحترق في ثوان ومعه نفس وروح من آمن بهذا المفكر وعمل من أجل نشر أفكاره.
أعلم أن ريتشارد دوكينز كان ولا يزال وسيبقى عالماً رصيناً في مجال علوم الحيوان، وأعلم أن كتبه حول النظرية الداروينية والفلسفات التي بنيت عليها ستبقى ثمينة في تاريخ العلوم البشرية، اتفق البشر مع ما كتب أو اختلفوا، لكن ما لا أستطيع أن أؤمن به بعد اليوم هو أن تكون في نفسه ذرة خير. من يستطيع أن يأخذ جانب الكيان الصهيوني في حرب القرن هذه على أطفال غزة تحديداً، لا يمكن أن يكون إنساناً «جيداً»، والإنسان الذي يخلو من الجودة الإنسانية، مهما بلغ علمه وتفكيره النقدي وثقافته، سيكون ضرره على البشرية أبعد بكثير من فائدته.
ستستعيد غزة عافيتها بعد حين، وسأستعيد أنا وغيري ثقتنا بالأفكار والمبادئ والمثل والعلوم الطبيعية والإنسانية بعد حين، وسيبقى دوكينز وأمثاله في قاع الحفرة المظلمة العميقة، لربما نقرأ كتبه، نستفيد من علومها، لكننا سنفعل دون أن ننسى أن نلعن كاتبها وأن نقدمه كمثال للعالِم الذي يَخونه منطقه وتُخليه عنصرياته من غريزته وذكائه العاطفي الإنسانيين. سيموت دوكينز كما سنموت كلنا ذات يوم، وستبقى غزة والتاريخ الشاهد على عذاباتها والموثق للمواقف تجاهها. وسيكون «يوم الحساب» التاريخي عسيرا، حين يوضع هتلر وأمثاله على كفة الميزان، ونتنياهو ومساندوه مثل دوكينز وأمثاله على كفته المقابلة، وجوه لعملة واحدة، ومكاييل متساوية لذات الوزن الشرير القبيح.
مسكين ريتشارد دوكينز، لا يعلم أنه كذلك ضحية للعدوان الصهيوني الفاحش، لقد سقط وانفجر ورُدم هو وأفكاره تحت التراب، وحالياً نحن في طور محاولة استخراج الأفكار البريئة من إثمه وإنعاشها في نفوسنا، تاركينه، بلا شك، ليتحلل بعنصرياته تحت الركام.