رياضيات

صبغت صفات الذكورة منذ عصور قديمة كل ما هو مهم وقوي وقيادي بصفاتها، وذلك لربما من بعد السقوط المدوي لفكرة الآلهة الأنثى من تاريخ البشرية إحلالا لفكرة الإله الذكر الأوحد مكانها، ولتتراجع الإلهات الإناث لتحتل مراكز الملائكة. وهكذا أصبحت الذكورة هي الصفة السائدة للإله، فلا يخاطب إلا بها، وبالطبع، جرى ذلك على بقية مقاليد الحياة. فكونفوشيوس، الفيلسوف الصيني العظيم ومؤسس الديانة، أو بالاحرى الفلسفة الكونفوشية وصاحب أول كتاب في الأخلاق والذي استمدت منه كل الأديان البشرية تقريبا تعاليمها منه، أحيانا حرفيا، كان شديد التعظيم للذكورة، حتى انه لم يكن للمرأة وجود تقريبا في الدولة بالنسبة له، حيث لم تزد عن كونها تابعا، ولم ترتفع عن كونها مصدر غواية يحسن الحذر منه.
وهكذا استمرت البشرية في ذكورية امتدادها (إلا من أقل القليل في مجتمعات أنثوية منعزلة)، وحملت لغاتها أفكارها بالطبع، وتطبعت كتبها الدينية بهذه الأفكار، وصولا إلى بدايات القرن العشرين الذي سرعان ما أودت نظرياته الفكرية المعجونة بدماء ضحايا الحربين العالميتين بالإيمان الكبير بالرجولة، كتوجه شوفيني، دافعة بالبشر لإعادة النظر في مفاهيمها وفي كل العنف الذي صاحب الاعتزاز بها.
بالطبع، سيستمر العنف طالما استمر البشر، الا أن المجتمعات المتقدمة أخذت تحاول جاهدة تفادي مظاهره في شتى مناحي حياتها: تتجنب هذه المجتمعات المواجهات المسلحة فيما بينها (وإن استخدمتها في سياساتها العسكرية الخارجية)، كما وتبتعد هذه المجتمعات عن استخدام أي أنواع عنف أخرى كاللفظي والذي هو عنف يتمركز ليس في النقد، فالنقد العنيف ممدوح في هذه المجتمعات، بل هو عنف يتمثل في التعبيرات العنصرية والطبقية والجندرية التي تحط من مكانة الإنسان وتدفعه ربما للمواجهات الجسدية. تحاول هذه المجتمعات كذلك تفادي العقوبات العنيفة، فمعظمها ألغى، أو يصارع لإلغاء، عقوبة الاعدام، كما أن التدخلات الأمنية عندهم محدودة ولا تتأتى سوى في أقسى الظروف، وحتى عند تجليها، فإنها تلاقي أصوات مناهضة مرتفعة تشكل تهديدا حقيقيا للحكومات المسؤولة عنها.
أما في عالمنا الشرق أوسطي، فلا زالت صفات الذكورة تطغى وتتسيد، ملونة طبائعنا، لغتنا، سياساتنا، تعاملنا اليومي، وبالطبع توجهاتنا الدينية والأخلاقية. فالمشير السيسي رئيس جمهورية مصر يشار إليه على أنه «دكر» باللهجة المصرية، وأما الحكام في الخليج فيوصفون بالآباء مستوجبي الطاعة والاحترام. تدلل الرجولة في تعاملنا الحياتي اليومي على مفاهيم الشهامة والعزة، الا أنهما تأتيان مسبوغتين بالكثير من العنف.
في حياتنا، وتطبيقا لمفهوم الشهامة واستتبابا لمنطق الأمن وتأييدا لفكرة كبح جماح الجموع، يميل الفرد العربي المسلم تحديدا إلى استخدام العنف، جانحا إليه مرورا فوق رؤوس الكثير من الحلول الأخرى التي لربما هي تستغرق وقتا أطول ولكنها ذات فاعلـــية أكثر. وحتى بعد وقوع العنف، تنظر العقلية العربـــية إلى الضحية المعنفــــة بعــــين الملام، فالمرأة المغتصبة أو المعنفة هي من استدعت هذا العنف، ومرتكب الجنحة أو الجريمة هو من استجلب التعذيب والإهانة والجموع المتظــــاهرة هي من خرقـــــت القانون واستحضرت قوات الأمن لتضربها، وهكذا، تجدنا ننطلق من عقلية تبحث عن خطيئة الضحية، تلقي اللوم عليها، تؤمن بضرورة انصياعها بل واستحقاقية العنف الواقع عليها.
وحتى في المنظور الديني، فإن أي معاناة حياتية تنطلق أما من عقوبة على ذنوب ارتكبها الإنسان في الدنيا أو اختبار لطريقة عيشه فيها. هناك تعايش «سلمي» مع العنف في مجتمعاتنا، قبولا به عقوبة إلهية، قدرا استدعاه الشخص لنفسه، أو عاقبة لتصرف ما كان له أن يأتيه. نقبل نحن بالعنف كنتيجة وحل انطلاقا من اعتزازنا بفكرة الذكورة القديمة وما يبنى عليها من مفاهيم رجولة بائدة على قمتها يتربع العنف والقوى الجسدية كأسلوب وأداة.
وهكذا، عندما استنكر البعض منا عنف قوات الأمن الكويتية في تفريق تجمع تم قبل أيام أمام البرلمان، أتت معظم الردود مبهرة في رجعيتها، موغلة في ذكوريتها، ساطعة في عماها عن الحقيقة، أتت الردود اما متشفية في من خرج في هذا التجمع أو مؤمنة على أهمية «العنف» لاستتباب «السلام» في فضه. عجز الكويتيون المتشفون، كما عجز قبلهم المصريون والسوريون والبحرينيون وغيرهم من أفراد شعوبنا العربية من أصحاب نظرية «القمع من أجل السلام» عن رؤية ليس فقط موضع نقدهم المعكوس الذي ترك الجاني وانصب على المجني عليه، ولكن كذلك عن استيعاب الطبيعة الدائرية لمنطق العنف اذا ما تم القبول به، فالعنف اذا ما تبرر سيدور في دائرة تتضخم وتتسع، دائرة مغلقة لا تنتهي، دائرة ستمر عليك أطرافها أو سيخترقك قطرها اذا ما أنت قبلت أن تكون في محيطها. انها عملية حسابية منطقية بسيطة يغفل «ذكوريو الأيديولوجية» (وهؤلاء قد يكونون رجالا أو نساء) عن رؤيتها.
كم ستتشرب هذه الأراضي الشرق أوسطية من دماء قبل أن تخترق الفكرة البسيطة العقل العربي المنيع: العنف يا عزيزي، ليس رجولة، بل هو ثور في ساقية، يدور ويدور ويرجع لك.